fbpx

سرٌ معلن  

0 27

ركع… أمي، أتذكرين؟ سألتك أين أبي؟ قلتِ سافر.. لم تقولي إلى أين.. لن تردّي عليّ الآن.. كانت الدموع تملأ عينيك.. مسحتِ على شعري.. قلتها بهمس عسى ألا تطول غيبته هذه المرة.. سألتك مع من؟ أجبتني مع أصدقاء في سيارة.. صدّقتُك أنا الطفل الصغير المدلل.. صدّقتُ دموعك العالقة بالرموش.. منّيت نفسي بدراجة حمراء أزهو بها في الحارة.. بكثير من الحلوى والمكسرات.. بثياب جديدة وجزمة.. دعوتُ أن يرجع بسرعة. أتذكرين عندما قلتُ أبي ضعيف ويسعل؟ قلتِ: أبوك قوي لا تخف ادعُ له فقط.. أتذكّر غمزتكِ خالي وهو يعطيك رزمة ليرات هذه من أبيك.. فرحتُ… صدّقتُكِ أنّه قوي وسيحقق ما تمنّيتُ.. اشتغلتِ بحياكة الصوف للجيران.. عرفتُ أنّنا بحاجة… أعطوكِ أجراً.. لم تبخلي عليّ.. لم تشتكي لكنّ دموعك كانت تخونك في المطبخ.. تفضح ما تخبئين بين حناياك، أو قبل أن أنام وأنت تتمتمين بالأدعية.. مرّت سنتان.. دخلت الروضة ثم المدرسة ولم يأتِ أبي.. ولم تصل منه رسالة.. كنت تقولين عسى الله أن يفرجها.. أردّدها خلفك كالببغاء.. هزل جسمكِ.. تغيّر لون وجنتيكِ.. أخفيتِ مرضكِ عني حتى لم تعد رجلاك تقوى على حملك.. دخلتِ المشفى… عشتُ أياماً أنتظر عودتك.. علمتُ من خالي.. أنك لن تعودي…

أمي.. كبرت الآن.. أنا في المرحلة الثانوية.. عرفتُ كلّ شيء أخفيته… قطفتُ لك طاقة ورود تحبينها لتشمّيها وتعطّر نسمات صباحك المشمس. أتيتُ لأخبرك أنّ الضياء عمّ بعد تلك الظلمة الحالكة، وأنّ ابن جارنا حسان عاد إلى البيت بجلد يخفي تحته عظام جسد نحيل وهو يعرج وبعين واحدة. زرته مباركاً له… سألته هل رأيت أبي؟ ردّ: أبوك بطل.. لم يضعف.. ولم يدلِ لهم بمعلومة قط.. عذبوه بشدة.. لم ترحمه سياطهم.. علّقوه من رجليه.. لذعوا جنبيه بأعقاب السجائر.. أجلسوه مقيداً بكرسي فوق شمعة أحرقت جلده واللحم، وأساخت الشحم.. كان يعض على شفته حتى أدماها.. لم نسمع له صوتاً… آخر جولة فاضت روحه إلى بارئها مخلفة جسداً أنهكته قسوة وحشيتهم…

أمي! هل تسمعيني.. جئت لأعلمُك أن أبي لن يعود من السفر كما قلت لي ذات يوم.. لقد سبقك.. أبلغيه أنّ الذين هَجَّروه…، هُجِّروا…، أشتاقُ لو أنّكما معي الآن تنعمون بيضاء شمس ربيع انتظرتماها كثيراً.. أخبريه.. أنا حزين لأني لم أودّعه.. حزين لأنه غادرنا وحيداً.. حزين لأنه لم يرَ شمس هذا اليوم.. ليتني أعرف أين دُفن لأقطف زهوراً أضعها على قبره.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني