fbpx

سراب الحل وصخرة الواقع

0 444

إن تمترس الفرقاء الإقليمين والدوليين خلف مشاريع ومطامح كبرى، حول الساحة السورية إلى جسر عبور لها جعل كل الجهود المبذولة للحل تصطدم بصرخة صماء.

وما زاد في الطين بلة أن أطراف الصراع السوري أصبحت جزءاً من هذه المشاريع إلى درجة الذوبان فيها.

هذه الحالة العبثية القائمة اليوم في الساحة السورية هي من تغلق منافذ أي أمل بالحل وتترك مصير الشعب السوري مرتهناً إلى ساحة تصفية الحسابات القائمة بين هؤلاء الفرقاء.

فعلى سبيل المثال يسعى بوتين بحلمه القيصري ومنذ بداية الثورة السورية إلى إخماد هذه الثورة بوقوفه إلى جانب نظام بشار الأسد بكل السبل بدءاً من الفيتو الذي كان يحمي به النظام في مجلس الأمن وصولاً إلى الدعم الجوي والعسكري لجيش النظام، بينما تلاشى محور أصدقاء الشعب السوري ولم يبق منه إلا تركيا التي تقف اليوم وحيدةً في وجه المد الروسي والإيراني الداعم للنظام الذي يرغب في إخضاع كل الجغرافية السورية، وإرغام الناس على للاستسلام والعودة بهم إلى حظيرة الأسد، وإن أظهر الإعلام الروسي التعاون مع تركيا في الملف السوري لكن عمق الخلافات الذي تكتمه الأقوال سرعان ما تفضحه الأفعال، وهذا ما كنا نشاهده في التصعيد المستمر في الشمال السوري وفي القصف المستمر من قبل النظام والروس على المناطق التي لاتزال خارج سيطرتهم، ومن خلال فشل المباحثات التي كانت جارية بين الوفد الروسي ونظيره التركي في أنقرة، إذ إن الجانب التركي لم يخف هذا الأمر بل تحدث به عنه صراحةً.

وبعد انتقال المباحثات إلى موسكو ورغم برودة الطقس هناك إلا أن شرارة الخلاف وصل صداها إلى شمال غرب إدلب مع استهداف الطائرة الروسية لموقع تدريب فيلق الشام الحليف لتركيا حيث سقط عدد كبير من الشهداء والجرحى، وكان هذا الاستهداف هو الأعنف في هذه المرحلة.

لقد قرأ الكثير من المراقبين هذا الاستهداف على أنه رسالة روسية إلى طاولة مفاوضاتها مع تركيا وهذه الرسالة لا تقتصر على الملف السوري بل تتعداه إلى الملفات الخلافية الأخرى في الحرب الأرمينية مع أذربيجان إلى ليبيا وغيرها وبشكل خاص أن هذا الاستهداف تزامن مع عودة الدفء للعلاقات التركية مع واشنطن التي يخشاها بوتين ولا يرغب بها طالما عمل جاهداً على سلخ تركيا عن حلفها الأطلسي عبر العديد من المغريات كان من ضمنها تزويد تركيا بصفقة الصواريخ S400 ومحاولات إرضاء تركيا بإبعاد قوات قسد عن بعض المناطق الحدودية معها، فضلاً عّن علاقات اقتصادية قائمة بين الطرفين، لكن كل هذه المحفزات لاتزال ضمن إطار التشارك ولم تصل إلى صيغة التحالف و هذا ما عبر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أكد أن بلاده لم تعتبر تركيا حليفاً استراتيجياً على الرغم من أهمية الشراكة الوثيقة بين الدولتين في مسائل مختلفة حيث قال:

(لم نصنف تركيا حليفاً استراتيجياً لنا بل هي شريك وثيق جداً).

وبالتالي فإن صيغة الحل المنشود وفق رؤية كل فريق تختلف تماماً عما يراه الفريق الآخر فاللاعب الإيراني الذي التزم الصمت اليوم تحت وقع عقوبات اقتصادية أمريكية خانقة عليه، وتحت وقع استهداف عسكري إسرائيلي مستمر لمواقعه في سوريا وحتى في الداخل الإيراني، وتحت وقع حكومة عراقية جديدة تعمل على الحد من نفوذه بدعم أميركي بقيَ متمسكاً بالحل الذي يمر عبر بوابة بشار الأسد..

أما الروسي الطامح بتثبيت أقدامه على كل الجغرافيا السورية فلا يرى أن بقاء بشار الأسد مهماً إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبشكل خاص مع الشروط الغربية والأمريكية الدائمة عليه بأن تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار مشروط بتطبيق الحل الأممي وفق القرار 2254 والانتقال السياسي..

لذلك فإن الطموح الروسي بحسم الأمور لصالحه في الملف السوري يقع بين مطرقة المطالب الدولية وسندان الأمر الواقع الإيراني المفروض عليه، هذا الواقع الإيراني الذي تغلغل في كل مفاصل الدولة السورية وبشكل خاص المؤسسة العسكرية والأمنية حتى باتت إيران تنظر إلى سوريا على أنها محافظة إيرانية وبالتالي فإن إيران لن تخرج من سوريا دون قسر ودون شعور بخطر حقيقي عليها، وكلنا يتابع كيف تمتص إيران الضربات الإسرائيلية وكيف تأقلمت معها.

فكيف يمكن لبوتين فرض إرادته دون توفر قوات عسكرية على الأرض تتفوق على قوة إيران أو على الأقل توازيها؟ وكلنا يعلم أن سلاح الطيران لا يحسم معركة دون تقدم قوات برية في الميدان، وبوتين لا يرغب في جر جيشه آلاف الكيلومترات وزجه في مستنقع قد يدخله في مواجهات كبرى بات الجميع يخشاها ويتجنبها.

من هنا نفهم تكثيف روسيا لجهودها في تشكيل قوة عسكرية تابعة لها وبشكل خاص ماقامت به في جنوب سوريا من تشكيل الفيلق الخامس ومن خلال التنسيق الأخير مع الأردن لإبعاد المليشيات التابعة لإيران عن الحدود الجنوبية كشرط أردني ورضى روسي لفتح معبر نصيب الحدودي مع الأردن وإعادة الحركة التجارية بين عمان ودمشق.

أيضاً من خلال السعي الروسي اليوم للتدخل في تأطير وتجديد جيش النظام وفق رؤيتها هي كما حصل أيضاً في التدخل الروسي في التعيينات الأخيرة التي طالت عدد من القادة الأمنيين والتي أتت روسيا من خلالها بأشخاص محسوبين عليها، حيث سبق هذه التعيينات زيارة الوفد الأمني الروسي ولقاءه بـ “علي مملوك” في دمشق.

وتحت ذرائع إنسانية تعمل روسيا على عقد مؤتمر للاجئين في دمشق مستغلة بذلك انشغال الولايات المتحدة الأمريكية في انتخابات الرئاسة لديها وذلك لتسويق استقرار ما تصنعه في مخيلتها فقط أما واقع الحال فيقول بأن اللاجئين الذين ثاروا على النظام المجرم الفاسد رفضوا ويرفضون العودة إلى بيوتهم طالما تطؤها أقدام شبيحة بشار الأسد ومعهم أقدام الغرباء.

أيضاً عقبة الشمال السوري لن يتمكن بوتين من حلها دون إنجاز الحل السياسي الذي فشل حتى الآن في إنجازه وذلك بسبب الوجود التركي الداعم للفصائل الثورية الذي أصبح قوة أمر واقع، والدعم الغربي للرؤية التركية في الحل التي تنطلق من رفض أي هجوم عسكري يعرض حياة أربعة ملايين إنسان للخطر وقد يتسبب في خلل أمني كبير وموجات هجرة جديدة يخشاها الأوربيون والأتراك معاً.

لذلك فإن الرؤية التركية للحل السوري تنسجم مع رؤية الأوربية والأميركية التي تعتبر أن المسار السياسي الذي ينطلق من تطبيق القرار 2254 وتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات هو المسار الوحيد للحل.

لذلك فإن سراب الحل الروسي سيبقى يصطدم بصخرة الواقع القائم وبصمود الشعب الثائر ورفضه العودة إلى بيت الطاعة الأسدي، وسيستمر توزيع مناطق النفوذ القائم اليوم أمراً واقعاً طالما أن استحقاقات الحل السياسي غائبة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني