سحر الطائفية يفتك بأهلها.. انتفاضة شيعة العراق ضد إيران
وصول الثورة الخمينية إلى السلطة في إيران كانت إيذانا ببدء عصر جديد بالمنطقة أسماه بعض النخب (عصر الذبح)، فيما انطلت الشعارات البراقة والخطابات الشعبوية بتحرير فلسطين وبيت المقدس وألقت بسحرها على الغالبية من الجمهور العربي دون الالتفات لأصوات محذرة من خطورة ذلك. وإدراكهم لخطورة مشروع ولاية الفقيه (التي هي خلافة شيعية).
كانت أخبار المجاهدين وانتصاراتهم على السوفييت في أفغانستان تثلج الصدور. وكان يخيم على المجتمع العربي حالة من الإحباط والياس من كل شعارات وممارسات قادة العرب من القوميين واليساريين وفشلهم الذريع بتحرير شبر واحد من أرض فلسطين أو حتى إقامة مثال واحد ناجح لحكم رشيد في بلد من البلدان.
بعد الغزو الأمريكي للعراق والاطاحة بالرئيس العراقي وإعدامه بعد سنتين من ذلك على يد خصومه من الشيعة، – الذي كان حدثاً تاريخياً بانتصار شيعي ساحق استغله الغلاة من رجال الدين العراقيين الشيعة الذين دخلوا بغداد على الدبابات الأمريكية – بدأ عصر جديد في العراق تجلى بتغلغل وهيمنة إيرانية في ظل الاحتلال الأمريكي وإقصاء العرب السنة عن الحياة العامة بظل قوانين لم يعرفها التاريخ كقانون اجتثاث البعث ومن بعده قانون 4 إرهاب، الذي كان يحاكم به أي سني، والتهم إما بعثي صدامي أو قاعدي أو داعشي.
تغولت إيران على الحكم بالعراق عبر استغلالها للخطاب الطائفي ودعمت وأنشأت ميليشيات شيعية عراقية كان لها واجهات سياسية تصدرت المشهد السياسي من 2003 لغاية اللحظة التاريخية الفاصلة بعمر العراق وهي تسلم السيد مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء في أيار 2020.
قدمت إيران نموذجاً لم يلتفت للجمهور الشيعي الذي تم خداعه لبضع سنوات بالشعارات الدينية. كان هذا النموذج الذي اعتمدته هي بنفسها وهو إنشاء دويلة داخل الدولة لها جيشها وأمنها وميزانياتها وشبكات اتصالات خاصة بها كانت تسيطر وتتحكم بالدولة الظاهرة المعروفة. واعتمدت نظاماً من الفساد وعدم المحاسبة في دويلتها الأمر الذي انعكس في الواقع أيضاً على الدولة العادية بفسادها وسوء إدارتها وعدم نزاهة قضاءها… إلخ.
كان النموذج الإيراني هو النموذج الطفيلي الذي يتغذى ويعتاش على جثث الدول، فانهارت الخدمات والقيم والمؤسسات بسبب سطوة فئة محدودة من ميليشيات ولائية (توالي الولي الفقيه).
بعد القضاء على داعش وارتفاع الأصوات الشيعية التي كانت مكبوته بحجة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. واجه المجتمع العراقي والشيعي خاصة وضعاً معيشياً وسياسياً مزرياً أدى بتطور الأحداث إلى انتفاضة تشرين 2019، التي كانت أول صرخة شيعية شعبية حقيقية بوجه هيمنة فصائل الحشد الولائية وحكومتها الدمية في بغداد ورئيسها عادل عبد المهدي.
يختلف المجتمع العراقي عن اللبناني، فالطائفية غير متجذرة بالمجتمع العراقي، إذ إنها حديثة العهد وكان للشيعة العرب دور بارز ومؤثر بكل أحداث العراق سياسياً واجتماعياً وثقافياً وكانوا عروبيون لا يتعاطفون مع الفرس بل لا يحبونهم.
كانت بلورة هوية وطنية عراقية ببعد عربي بدأت بالظهور في مواجهة هوية شيعية تحاول إيران فرضها بالترغيب والترهيب على الشيعة العرب بل في العالم أجمع.
كان الصدام دموياً والقتل وحشياً بدم بارد، حيث قتلت ميليشيا الحشد الشعبي أكثر من ألف متظاهر مدني وجرحت حوالي ثلاثين ألفاً، ولا توجد إحصائيات عن عدد المفقودين والمخطوفين. صمدث الثورة السلمية المطالبة بالتخلص من هيمنة الميليشيات والعودة لكنف الدولة وكان الشعار الطاغي المعبر عن ذلك هو أريد وطناً.
تم حرق ممثليات لإيران بالنجف وغيرها ورفع شعارات العراق حرة حرة وإيران تطلع برة.
كان واضحاً ان البيئة الشيعية ترفض الهيمنة الإيرانية رفضاً قاطعاً ولم تكتف بالكلام بل واجهت الميليشيات المتوحشة بالصدور العارية.
حدثت تحولات دراماتيكية في أول عام 2020 في المشهد العراقي، فبعد قتل قاسم سليماني و “أبو مهدي المهندس” (وهما قائدان تاريخيان يتمتعان بكاريزما وحنكة لم تتوفر بمن خلفهما). أعقب ذلك فترة ضعف إيرانية وخوف من ضربات أمريكية أكبر، فوصل في أيار 2020 السيد مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء قادماً من رئاسة المخابرات العراقية وكان أول رئيس وزراء بعد 2003 من خارج المنظومة العراقية التي تهيمن عليها إيران.
انتهج الكاظمي سياسات مختلفة عمن سبقه، فقد اقترب من الحاضنة الشيعية (التشرينية بشكل خاص ووعد بمحاسبة قتلة المتظاهرين) وبدأ سياسة انفتاح على المحيط العربي تجلت بزيارات وتوقيع اتفاقيات تعاون مع السعودية والإمارات وغيرهما وتجلت بشكل واضح باتفاق الشام الجديد إلى جانب مصر والأردن. وبدى وكأنه يكسر الأسافين التي وضعها أسلافه أمام عودة العراق إلى العرب أو عودة العرب إلى العراق.
حصل الاستحقاق الأخير 10/10/2021 ومني الحشد الشيعي الولائي بخسارة قاسية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، الأمر الذي يهدده ويهدد إيران بفقدانها لأهم منصب رسمي بصلاحيات تنفيذية واسعة بالعراق لأول مرة منذ 2003.
كان الارتباك واضحاً على فصائل الحشد الخاسرة، فقالت إن الانتخابات مزورة وهي لن تعترف بالنتائج وبدأت سلسلة من الحشد الإعلامي والشعبي وإنزال الغوغاء إلى الشوارع وقطعها، كل ذلك ضمن تهديدات واضحة من قادة الحشد باستعمال قوة السلاح لتغيير نتائج الانتخابات
كان واضحاً أن البيئة الشيعية عاقبت فصائل الحشد الولائي وسحبت الشرعية الشعبية منها بالكامل.
النقطة التاريخية الهامة هي أيضاً 5/11 وهو تتويج احتجاجات الفصائل الخاسرة بتظاهرة ثم اقتحام أسوار المنطقة الخضراء في استعراض للقوة، قابلته القوى الأمنية العراقية بالرصاص، الأمر الذي أدى لمقتل أحد قادة الصف الثاني من ميليشيا عصائب أهل الحق التي يرأسها قيس الخزعلي، وكان أول قتيل شيعي عراقي يقتل بالرصاص في مواجهة سلطة شرعية يترأسها رئيس وزراء شيعي عراقي.
تم نصب خيمة عزاء كبيرة ببغداد على أبواب المنطقة الخضراء شارك بها كل قادة الحشد وتم إطلاق كل التهديدات بالانتقام من رئيس الوزراء (القائد العام للجيش والقوات المسلحة) وتم تحميله المسؤولية المباشرة.
فجر يوم 7 /11 حصل تطور تاريخي في مسلسل الصراع بين الدولة وقائدها الكاظمي والفصائل الموالية لإيران تجلت باستهدافه بمنزله بالمنطقة الخضراء بطائرة مسيرة أخطأته ونجا من محاولة اغتياله، وإرسال رسالة أن منصب رئيس الوزراء هذا لن تفرط به إيران مهما كانت الظروف، وهي أيضاً محاولة قتل رئيس وزراء شيعي بيد فصائل شيعية.
يمكننا الآن رسم الصورة التالية: بعد مرور 18 عاماً على هيمنة إيرانية كاملة على العراق نجد الآن أن العراق أصبح أزمة بالنسبة لإيران وليس منصة متقدمة تستعملها لتهديد الجوار، وأن السنة العرب متماهون مع العملية السياسية ومؤيدون لحل الدولة القوية، والفصائل الموالية لإيران تتظاهر وتحاول قتل رئيس الوزراء، وأمس هدد قيس الخزعلي ليس بمقاطعة أو عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات بل بمقاطعة العملية السياسية برمتها، بوضع يشبه فصائل السنة العرب بعد2003 داعش والقاعدة والإخوان والمجالس الشرعية.
الخلاف الشيعي – الشيعي مرشح للتحول من صراع وحرب رمادية إلى صراع علني وواضح، إذ إن إيران وحشدها لن يسلموا بالهزيمة بالانتخابات وتولي نخبة سياسية جديدة تقصي من أجهزة الدولة (العسكرية والأمنية خاصة) كل الأشخاص الذين تم زرعهم فيها، وبالتالي إبعادهم عن كل تأثير. وليس أمام الحشد من سبيل إلا افتعال حرب أهلية مع الدولة وميليشيات الصدر ونشر الفوضى في الجنوب الشيعي خاصة. فلا تبرير للاحتفاظ بسلاحها، وبذلك ستسقط حجة المقاومة التي يدعونها.
يرى أغلب المراقبين أن تلك التطورات المتسارعة التي تحدث في العراق ما كانت لتحدث إلا بسبب توفر عاملين مهمين:
1- تشكل بيئة شيعية معادية للمشروع الإيراني وتشكل هذه البيئة حاضنة شيعية لمشروع الدولة التي يؤيدها الكرد منذ 2003 والسنة بعد التخلص من عوامل وتنظيمات الفكر الجهادي العابر للحدود.
2- توفر إرادة دولية لإقصاء وهزيمة الإسلام السياسي والجهادي الشيعي بعد انهيار نظيره السني.
لن يكون الأمر سريعاً، بدأت الآن عملية التوازن بين عوامل الدولة وعوامل اللادولة، ريثما تتم بعد مخاض مؤلم عملية إنهاء الفصائل الولائية والنفوذ الإيراني بجيش عراقي عماده من الشيعة العراقيون.