fbpx

رقص على وتر الموت

0 264

“يا لطيف تلطّف..” رنّت في أذنه جرس خطر.. استفزته الصرخة.. هبّ واقفاً.. توكأ على عصاه واتّجه نحو النافذة.. أزاح الستارة.. أعمدة من دخان وغبار تتصاعد أسراب سحبها في الجوّ.. رجال ونساء وأطفال تُهرع في الشوارع.. تساءل: هل هذا هو اليوم الموعود أم غضب من السماء؟! غامت عيناه وهو يتابع ذهول الناس.. تجمّع ماء مالح في مآقيه.. تشوّشت الرؤية .. تداخلت أخيلة.. وتراقصت الصورة.. امتدّت يده.. رفعت النظارة ومسحت دمعة حارّة تقطّرت على صفحة خدّه.. تأوّه.. رفع رأسه.. فتح راحتيه.. تنفّسها من بين شفتيهِ ناراً تحرق: يا ربّ…

لم يستطع البقاء واقفاً.. تخدّرت رجلاه.. عاد إلى فراشه وتمدّد.. علقت عيناه في سقف الغرفة.. رأى فراشة تحوم باحثة عن مستقر لها، وفي زاوية لا يطالها شعاع الشمس نسج العنكبوت شبكته ينتظر صيداً.. أذنه تلتقط أصواتاً مبهمة.. سرح خياله بعيداً.. عَبَر الزمن.. عاد عقوداً.. تذكّر يوم قصفت الطائرات الفرنسية حيَّهم.. تشابكت الصورتان في مخليته.. تقاطعت الرؤى.. تفجّرت من صدره تنهيدة حرّى واعتصره ألم حاد.. تسللت من طرف عينه قطرة ملحية تدحرجت على صدغه.. تحدّرت ولامست نتوء أذنه.. رجفت شفتاه.. اختنقت الكلمات.. همساً تمتم: كنا نواجه عدواً غريباً سلبنا الحرية.. قاتلناه بشراسة لنستردها.. اليوم…؟! أيعقل ما يحصل؟! آهٍ!.. ربّاه كيف يواجه الأخوة بعضهم بعضاً!.. لقد أصبحوا أعداء تتناثر جثثهم على ساحة الوطن.. وبلا رحمة يرقصون مع أعدائهم فوقها..

ازداد هدير الأصوات ارتفاعاً.. تصاعدت الأفكار في رأسه حيرى.. عاد ولده مسرعاً.. قالها ملهوفاً.. القصف يقترب.. يلتهم العمارات ويدمّر البيوت فوق سكانها.. يهشم الشجر ويفتت الحجر.. هيّا اسرعوا.. البسوا ما تيسّر.. احملوا ما خفّ ممّا تحتاجونه وما يمكن حمله. اقترب حفيده يساعده على النهوض.. ناوله عصاه.. وقف عند عتبة الباب.. تفحّص المكان.. تذكّر أبا عوّاد وهو يروي له كيف غادر بيته في فلسطين قبل ستين سنة ونيّف، ومشى في درب اللجوء على أمل… إنّه – الآن – أبو عوّاد آخر.. اتكأ على كتف حفيده ونزل يعدّ الدرجات…

كفراشات تدور حول ضوء مصباح في جنح الليل يتزاحمون على اعتلاء صندوق سيارة متهالكة مكشوفاً قاصدين الحدود فراراً من جحيم يتهدّدهم بالفناء…

انطلقت تهتز فوق حفر كرجل أعرج يسير على حصىً حادة الحواف.. أوصلتهم إلى حدود غابة تنحدر على سفح جبل، وتنبسط على حافة السهل.. صعدوا عبرها في درب تتعرح أفعوانية نحو قنّة الجبل حيث يرتسم خط حدود الوطن…

قرب القمة، وعلى بعد أمتار قليلة من خط الحدود طلب الاستراحة دقائق ليلتقط أنفاسه.. جلس.. أسند ظهره إلى صخرة ناتئة.. أجال نظره يودّع الهضاب والوديان ومراتع الطفولة والصبا.. رفع بصره نحو السماء.. ربّاه لا تجعل مثواي بعيداً وغريباً.. ليكن في عمق هذا الأرض.. أحس أنه طير يفرد جناحيه للريح ويحوّم فوق المنعرجات الممتدة أمامه.. التفت إلى حفيده.. حدّق في وجهه.. افترت شفتاه عن ابتسامة صفراء واهية كورقة خريفية.. أخذ نفساً عميقاً وزفره ببطء.. شهق.. تهدّلت يداه.. تنكّس رأسه.. استندت ذقنه على صدره.. ارتخت قبضة يده.. سقطت عصاه قربه.. سكن جسده دونما حركة…

أهال حفيده آخر راحة تراب، وبيد مرتجفة مهّدها بعناية.. ربت عليها برفق.. أعدك سأعود.. سأغرس عند رأسك سنديانة تؤنس وحدتك، وأضع وردة جوري على صدرك..

عند آخر خطوة وهو يهمّ باجتياز الحدود استدار إلى الخلف.. تطلّع إلى ما ورائها.. مسح عليها نظرة عابرة.. توقّف عند جدث الجد.. لوّح بيده و…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني