fbpx

رفع العقوبات عن سوريا: خطوة ضرورية أم حل مؤقت؟

0 101

في ظل ما تعيشه سوريا من دمار واسع طال البنية التحتية، والمجتمع، والاقتصاد، والمؤسسات، وفي ظل غموض العملية السياسية، يعود الحديث عن رفع العقوبات الدولية المفروضة على البلاد إلى واجهة النقاش. هذا الموضوع يطرح تساؤلات جوهرية تتعلّق بجدوى رفع العقوبات، وفعاليته في تحسين الواقع السوري، وحدود تأثيره، إن لم يترافق مع إصلاحات سياسية ومؤسساتية عميقة.

بصورة مبدئية، يمكن القول إن رفع العقوبات يمثل خطوة أولى لإعادة الدولة السورية إلى وضعها “الطبيعي” على المستوى الدولي، من دون تصنيفات استثنائية أو عزلة سياسية واقتصادية. وهو أمر يُفترض أن ينعكس إيجاباً، لا فقط على النظام السياسي، بل على المجتمع السوري ككل من خلال تخفيف الضغط الاقتصادي، وفتح المجال أمام المعاملات التجارية والمالية، واستيراد المواد الأساسية، وتحسين واقع المساعدات الإنسانية.

غير أن هذا الانفتاح، ورغم ضرورته، لا يمكن أن يُعتبر كافياً في السياق السوري المعقد. فالبلاد تعيش انهياراً مؤسساتياً حاداً، وضعفاً في البنية القانونية، وانعداماً في الرؤية الاقتصادية طويلة الأجل، فضلاً عن واقع سياسي يتجه نحو مزيد من التصلّب، بعيداً عن أي أفق واضح للإصلاح أو المصالحة.

إن رفع العقوبات، من منظور نظري، قد يسمح للنظام السياسي باستعادة بعض أدوات الريع الخارجي، سواء عبر المساعدات الدولية أو المنح أو تدفقات رؤوس الأموال. وهذه الأدوات الريعية، وإن ساعدت في تأمين بعض الموارد السريعة، فإنها لا تبني اقتصاداً متماسكاً أو مؤسسات قوية. بل على العكس، قد تُستخدم لإعادة إنتاج نمط الحكم القائم دون إجراء أي تغيير بنيوي حقيقي، ما يعني أن الأزمة ستستمر بشكل مختلف.

إن الاقتصاد السوري اليوم، كما هو واضح، لا يعاني فقط من نقص السيولة أو الموارد، بل من غياب المؤسسات الشاملة التي تضمن قواعد عادلة، وحوكمة قانونية، وشفافية، وتكافؤ فرص. فكل محاولة لبناء نمو اقتصادي طويل الأجل تستلزم إطاراً قانونياً واضحاً، واستقراراً سياسياً، وتوزيعاً عادلاً للموارد، وبيئة استثمارية خالية من الفساد والمحسوبيات.

في المقابل، فإن الدولة حتى اللحظة لا تسعى إلى بناء هذا النوع من المؤسسات. بل تُظهر المؤشرات المتوفرة أن التوجه العام يتجه نحو تعزيز المؤسسات الاستخراجية، التي تسيطر على الموارد وتوزّعها وفق منطق الزبائنية والاحتكار. هذه المؤسسات قد تحقق بعض “النمو” في المدى القصير، لكنها لا تُنتج تنمية مستدامة، ولا تُمكّن المجتمع من النهوض الحقيقي، بل قد تُكرّس المزيد من اللامساواة والتهميش.

أضف إلى ذلك أن إدارة اقتصاد ليبرالي أو مفتوح تتطلب كوادر مؤهلة، وتخطيطاً طويل الأمد، وانفتاحاً حقيقياً لا شكلياً، على العالم وعلى المجتمع المحلي. بينما التضييق السياسي والأمني، وغياب البيئة المؤسسية السليمة، سيؤديان إلى تآكل أي فرصة للتعافي، بل وربما تسريع انهيار ما تبقى من القدرات الاقتصادية للدولة.

من ناحية أخرى، فإن رفع العقوبات، دون وجود خطة اقتصادية وطنية واضحة، قد يفتح الباب أمام منافسة إقليمية غير متكافئة، خصوصاً من الجانب التركي، الذي قد يرى في السوق السورية فرصة لتصريف منتجاته وسط غياب شبه كامل للإنتاج المحلي. هذا الانفتاح العشوائي قد يحوّل سوريا إلى سوق استهلاكي لا أكثر، بينما تستفيد الدول الأخرى من واقعها الهش دون أي مصلحة حقيقية للسوريين.

أما على مستوى الاستقرار، فإن الاقتصاد لا يمكن أن يتعافى في غياب رؤية سياسية واضحة. فلا يزال الوضع في سوريا في حالة انتقالية غير محددة، مع توترات داخلية مستمرة في مناطق مثل شرق الفرات، وتعقيدات إقليمية غير محسومة. كل ذلك ينعكس على غياب الثقة في السوق، وعلى تردد المستثمرين، وعلى انعدام القدرة على التخطيط أو الاستشراف.

من هنا، فإن رفع العقوبات، رغم كونه خطوة ضرورية لتخفيف المعاناة الإنسانية وتحريك العجلة الاقتصادية، لا يُعدّ حلاً جذرياً. هو إجراء مرحلي، يجب أن يُستثمر كفرصة لفتح الباب نحو إصلاح سياسي حقيقي، وإعادة هيكلة المؤسسات، وتقصير أمد المرحلة الانتقالية، وبناء قواعد اقتصادية قانونية حديثة.

إن جوهر المشكلة الاقتصادية في سوريا ليس فقط في العقوبات أو الحصار، بل في بنية سياسية مغلقة، ومؤسسات غير قادرة على الأداء. وبالتالي فإن الحل المستدام يبدأ من الداخل، عبر إعادة بناء الدولة كمفهوم ومؤسسات، وتوسيع هامش المشاركة، وخلق بيئة قانونية تحفّز الإنتاج والاستثمار وتكافؤ الفرص.

وهكذا نرى أن رفع العقوبات عن سوريا قد يفتح باباً للتعافي، لكنه ليس نهاية الأزمة، بل بداية مسار يحتاج إلى شجاعة سياسية، وخطة وطنية واضحة، وإصلاح عميق، وإلا فإنه سيكون مجرد مسكّن قصير الأجل، سرعان ما تفقد مفعوله أمام تعقيدات الواقع المتراكم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني