رسم على الرمال
صفعه بقوة.. أرجوك.. ثنّاها بخفّ بعير .. شعر بصعقة في أذنه.. دار حول نفسه.. تهاوى على الأرض.. ركله في الخاصرة.. تأوّه.. الرحمة.. قل من كان معك تلك الليلة؟
– ما خرجت من البيت
– تكذب… وداس على رأسه…
– ارحمني …
– تكلّم… وأشار إلى آخر …
من بين رموشه شاهده يلوّح بسلك كهرباء مجدول.. التقطت أذنه صوته قبل أن يلسعه.. أحس بسيخ من نار يلذع جلده.. أتبعه بثانية وثالثة و… روحه تكاد تنسلّ من بين جنبيه مع كل لسعة، ثم ركله بقوة في المعدة.. دحرجه.. ارتطم رأسه بالجدار .. فقد الإحساس بالألم.. وغاب عن الوجود…
فاق… يداه مشدودتان معلقاً بالسقف.. قدماه تكادان تمسان الأرض، وجسمه ينضح بالألم.. سمعه يأمرهم بإنزاله.. جروه إلى وسط الغرفة.. اعترفْ مَن كان معك؟
– قلت لكم.. لم أغادر البيت تلك الليلة
– مازلت تكذب… هو لكم…
وتكررت حفلات التعذيب أياماً.. كوت السياط جلده، وتورّم رأسه من الركل.. صار يرى أشباحهم من خلال رموش عيون ربع مفتوحة.. جسمه منهك، لم يعد يستطيع الوقوف على قدميه النازفتين. قال له: كفاك كذباً.. أخبرنا زميلك عصام كل شيء.. هيّا تكلم..
– عن ماذا أتكلم؟
– عن الذين كنت معهم
– لا أعرف شيئاً، لم أخرج من البيت.. صدقوني
– نصدقك يابن ال…؟ خذوه ليعرف كيف نصدقه…
كان يعلم أن عصاماً لم يعترف وقد قضى تحت التعذيب فكيف يخون زملاءه. تعرّض للشبح وللحرق بأعقاب السجائر حتى في المناطق الحساسة.. تحمل العذاب كرمى للصداقة ولروح عصام.. صمّم على الصمت.. نوى أن يلحق به…
وآخر يوم ذاق فيه طعم التعذيب المر ولم تندّ عنه إلّا: كنت في البيت ولم أغادره… ثارت ثائرة أحدهم .. ضربه بعصاً على رأسه تلقاها بيده فكُسِرت، وكرّرها بزرد فشجّ جبهته.. أفقده الوعي وسقط متهالكاً… فقدوا الأمل منه.. رموه ليلاً شبه ميت تحت شجرة في بستان…
شعر برطوبة أرض لينة مبللة بالماء.. فتح عينيه.. ضوء خافت.. رأى أغصاناً عارية فوقه.. لم يصدق نفسه.. حرّك يده.. تلمّس جسده.. وخزه ألم شديد في رأسه وذراعه.. أشرقت الشمس.. دفء أشعتها بعث فيه بقايا قوة.. زحف إلى قارعة طريق زراعية.. انتظر فرجاً ساعات ولم يأتِ.. قرصه البرد.. انتفضت أعضاؤه من شدته.. غامت عيناه رويداً.. رويداً.. شعر بالنعاس.. تهامست رموشه.. تعانقت أجفانه.. وفي البعيد رأى عصاماً…
مرً به مزارع.. حمداً لله مازالت فيه بقايا حياة.. حمله إلى قاطرة جراره.. وفي البيت قدموا له إسعافات أولية.. بحثوا في جيوبه.. عثروا على هويته الشخصية.. أخبروا أهله فحملوه إلى داره ينازع في برزخ بين الحياة والموت.
عالجوه.. بدأت الحياة تنشر نسغها في أوصاله.. انتصر على الموت. وبعد شهور عاد إلى العمل؛ لكنه لم ينسَ الجرح في جبهته وكلما نظر في المرآة يتذكّر وجه الوحش الذي عذبه، ويتمنى أن يراه ثانية…
بضع سنوات.. تهاوت قلاع الظلم، وتهالك الفساد.. تنفس فجر حياة مشرقة.. اختفت خفافيش الظلام وضفادعها.. تنسم الناس عبق ربيع جديد.. صفت السماء، واخضرت الأرض، وزقزقت العصافير… ذهب إلى المدينة رآها في دنيا غير الدنيا… دخل إلى مطعم.. دارت عيناه تبحث عن مكان.. شاهده.. اقترب منه.. سأله الجلوس إلى طاولته، لم يرفض وقال: إنّي أشبّه عليك.. هل تعرفني؟
– نعم…
– أين التقينا؟
– ألا تذكر تلك الأيام؟
– متى، ذكّرني…؟
– أيام كنتم تشبحون الناس بلا رحمة
– من أنت؟
– رفع غطاء رأسه وأشار إلى جبهته.. أتذكر هذا الجرح؟ ربما لم تنسَ ذلك الرجل الذي رميتموه تحت شجرة في ظلمة الليل للذئاب…
– اسودت قسماته..تلعثم.. كنّا نفعل ذلك كرهاً..تلك أوامر يجب تنفيذها.. لقد جعلونا ننسى أننا بشر.. حوّلونا إلى حيوانات تنهش… هل لك أن تسا… قاطعه
– مهلاً لستَ عدواً، ولستُ بحاقد.. تلك الأيام طواها الزمن.. أثار أقدام على شاطئ محاها المد، وخربشات قلم رصاص أزالتها ممحاة ليرسم الأطفال أشجاراً خضراء، وأزهاراً ملونة، وشمساً، وقوس قزح.. تغيرنا.. نعم تغيرنا.. نحن أخوة سحقتنا – معاً – طغمة فساد حاقدة.. وباسماً.. هاتِ يدكَ…