رجوع العنف إلى صباه
تمرّ الأيام سراعاً، هكذا هي الحياة، تشرق الشمس ثم تغرب والعالم يعيشها بالسنوات والشهور، تتسارع بتطور التكنولوجيا فتُختصَر إلى أسابيع وأيام وساعات، ونتساءل: هل يمكن للعالم أن يعود إلى الوراء؟ إلى تاريخ عنفي مضى، أو بتعبير الأدب والسينما الخطف خلفاً؟.
سؤال يراود العقل والمخيال، ويضيع بين الشك واليقين، ويتراوح متأرجحاً بين حدود الممكن والمستحيل في ظل تناغم الهيئات والمنظمات الدولية، وتنامي العسكرة والعنف غير المبرر في جوّ من تبادل المصالح بين الدول الكبرى على مسرح عالمنا الذي يحتفي بتطور العلوم بأنواعها وتقدمها، والتنامي المعرفي والتكنولوجي، واحتكار الشركات الكبرى المصنّعة للسلاح، والسباق المعلن والخفي للدول العظمى على سطح كوكبنا المهدد بالدمار المخيف في ظل تفوق السلاحين الفتاكين الذري والبيولوجي اللذين يتطوران بشكل كبير، وتكتم شديد من تلك الدول الساعية لامتلاك القوة العسكرية.
تنفس العالم بضع سنين لم تطل في شبه توقف للحرب الباردة بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي؛ لكن الوقت لم يطل لتعود الحرب الباردة إلى الواجهة في سنوات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين بصور جديدة شتّى، وتدخل في هذا الصراع دول جديدة لم تكن حاضرة على الساحة أيام الحرب الباردة بين العملاقين الأمريكي والسوفييتي، وتتشكل محاور جديدة، ويتبدّى سعي حثيث لامتلاك الذرة رغم مخاطر استخداماتها حتى على أصحابها، ولتنشأ بؤر توتر في أماكن عديدة، ويتنامى العنف بسرعة خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
ومن الملاحظ أن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين حمل في طياته ما كان مخبأ من مظاهر العنف التي راحت تتكشف عن جدل وحوارات لامتصاص غضب الشعوب علانية حيناً، وسرية حيناً لتقاسم مراكز النفوذ والسيطرة بين الأقوياء على حساب شعوب البلدان التي رضخت عشرات السنين تحت نير حكومات يتآكلها الفساد والعمالة والقمع العنفي غير المبرر لشعوبها، وازدادت خطورة بصعود تيارات التعصب القومي والديني ووصولها إلى الواجهة، واستلامها السلطة، ومحاولتها التفرد بالقرار، وحالمة أن يكون لها صوت قوي، ووجود على الساحة الدولية، ومؤمنة بقوة السلاح، ونشر العنف لصنع إمبراطوريات جديدة.
ومع أن العالم ينبذ العنف، ويتخوّف منه، ويتحاشى مخاطر المواجهة المسلحة بين الدول الكبرى إلّا أنه يعيش على شفير الهاوية.
مخاوف يثيرها أولئك المشبعون بهوس السلطة والقوة، وجرّ العالم إلى بؤرة حرب عالمية ثالثة، إن استخدِم فيها ما تكدس من أسلحة نووية وبيولوجية وصواريخ بالستية ستفني كل شيء على سطح كوكبنا، وربما تفجّره وتنثره قطعاً صغيرة تسبح في الفضاء.
خطأ واحد من مهووس أرعن لا يحسب للعواقب حساباً، ولا يقدر النتائج حق قدرها سوف يجر كوكبنا إلى دمار شامل.
سؤال يمكن أن يرجعنا عقوداً تصرّمت منذ أن نشأت هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لماذا نشأت؟ وما الأسباب التي أدت لنشوئها؟ وهل هناك خطأ ارتكب في بنية ميثاقها؟ وهل يجني العالم أوزار هذا الخطأ؟ ولماذا يتنامى العنف في مناطق عديدة من العالم بعد أكثر من سبعة عقود على نشأة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ ثم أليست الدول الأطراف في هذه الهيئة مسؤولة أخلاقياً وإنسانياً عن تحقيق أهداف ميثاقها، وأهداف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
أسئلة كثيرة يمكن أن نقف عندها، وتعيدنا إلى قرن مضى؛ لنتذكّر لماذا، وكيف حدثت الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب العالمية الثانية، والعنف الذي سبب القتل وسقوط الضحايا بالملايين، وتدمير المدن والقرى، والبيئة الطبيعية، وكيف نشأت هيئة الأمم المتحدة، ومَن دعا إلى نشوئها؟
علّمنا التاريخ أن المنتصر يضع شروطه، والويل للمغلوب فعليه القبول، والضعيف يمشي في الجوقة واضعاً يده على رأسه خوفاً ليتقي ضربة تطيح بعنقه.
هذا منطق التاريخ قائم على العنف والقوة، والمنتصر يفرض الشروط، وبعد الحرب العالمية الثانية دعت الدول الخمس المنتصرة لإيجاد هيئة الأمم المتحدة بعد أن فشلت عصبة الأمم التي أُنشئَت بعد الحرب العالمية الأولى، وجرّت الدول الأطراف إلى القبول بها، واحتفظت لنفسها بحق العضوية الدائمة وبحق الاعتراض/الفيتو في مجلس الأمن، كما أمّنت لنفسها فيه شروطاً مميزة أخرى لتكون قراراته نافذة، وأكبر قوة من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وإذا كانت الأمم المتحدة قد استطاعت بمنظماتها ووكالاتها المتعددة أن تقدم للبشرية خدمات لا تُنسى في موضوعات عديدة إلّا أن عنف وتجبّر الدول الكبرى لم ينتهِ، ولم يتوقف إذ بقي سباق التسلح وفرض السيطرة بالقوة قائماً، ومع الزمن بدأت التناقضات تزداد حدّة، والعنف يأخذ أشكالاً متعددة عسكرية، واقتصادية، وثقافية، وفي العقود الثلاثة الأخيرة أخذ العنف شكلاً من العسكرة والهيمنة والتغوّل على حقوق الدول وسيادتها واستقلالها بعداً أشد حدّة أدى لاجتياحات عسكرية في منطقة الشرق الأوسط وغيرها، فلم تنسَ البشرية كيف اجتاح العراق دولة الكويت، ولا السيطرة السوفييتية على أفغانستان ثم أمريكا، ولا اجتياح أمريكا بوش الابن للعراق ولا تغوّل إيران في المنطقة وتدخلها في شؤون العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، ولا الهيمنة الروسية والأمريكية والتدخل التركي، ولا لعبة أموال الخليج العربي في أوراق المنطقة كلها، ولا الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، ولا الممارسة العنصرية المقيتة التي يمارسها على الشعب الفلسطيني، وآخرها الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا، ليذكرنا بعودة البشرية إلى عصر التوحش واستلاب حقوق الإنسان، والقفز على ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجميع الاتفاقيات الدولية التي اعترفت بها روسيا، ووقعت عليها، وصدقتها، وانضمت إليها، وفرضت بالقوة العسكرية حالة غير شرعية ومرفوضة أخلاقياً وإنسانياً، وواضعة العالم على شفير حرب عالمية جديدة لا يمكن معرفة نتائجها ولا التكهن بها، والجميع يقرّ أن الحرب تبدأ؛ لكنّها متى، وكيف تنتهي؟
لا يستطيع أحد أن يجزم به.