
دلالات ظهور التحالف السياسي “تماسك” في دمشق
إن المتابع للمشهد السياسي السوري اليوم يدرك أن الإعلان عن تشكيل “تيار تماسك” داخل دمشق هو تطور يحمل دلالات عميقة تتجاوز مجرد كونه حدثاً سياسياً عابراً. فهذا الإعلان، جاء نتيجة تحولات داخلية بعد إسقاط نظام بشار الأسد، حيث يعكس لحظة مفصلية في سياق الصراع السياسي القائم منذ عقود. فمنذ عقود طويلة، لم يعرف السوريون معارضة سياسية مسموح بها إلا ضمن حدود يحددها النظام السابق نظام حزب البعث الأرعن، وكانت أي محاولات للخروج عن هذه الدائرة تقابل بالقمع والاعتقال، وهو ما يجعل هذا الحدث ملفتاً للانتباه في ظل حكم الثورة السورية بعد انتصارها، ويدفع للتساؤل حول أبعاده الحقيقية، وما إذا كان يمثل بوادر تغيير حقيقي أم مجرد إعادة إنتاج لآليات التحكم السابقة بوجوه جديدة كما كان يفعل نظام الأسد.
لا يمكن قراءة هذه الخطوة بمعزل عن طبيعة السلطة السابقة في سوريا، التي لطالما اعتمدت على إغلاق المجال السياسي ومنع أي محاولات جدية لمنافستها. إن السماح اليوم بظهور تيار سياسي بهذا الشكل، حتى لو بدا في ظاهره تطوراً نحو الانفتاح، يثير تساؤلات حول مدى استقلاليته وحدود دوره الحقيقي في ظل الحكم الجديد. فالتجارب السابقة تشير إلى أن النظام السابق في لحظات ضعفه كان يلجأ أحياناً إلى استحداث حركات أو السماح بظهور تيارات محسوبة عليه لإعطاء انطباع بوجود هامش من التعددية السياسية، دون أن يكون لهذا أي تأثير حقيقي على بنية السلطة أو سياساتها القمعية، فهل هذه الحركة اليوم تشبه الحركات السابقة في ظل نظام البعث؟
في المقابل، من الخطأ أيضاً النظر إلى هذا الحدث بمنظار التشكيك المطلق، دون محاولة فهم العوامل التي أفرزته. فالتغيرات التي حصلت في سوريا، سواء على المستوى الداخلي أو في سياق الصراع الإقليمي والدولي، قد تكون فرضت على السلطة الحالية، إعادة النظر في طريقة التعامل مع المشهد السياسي. من المحتمل أن يكون السماح بتيار كهذا محاولة لإظهار التعددية السياسية في سوريا الجديدة، أو قبول حقيقي بين أجنحة السلطة نفسها حول كيفية إدارة المرحلة المقبلة. وربما يكون هذا مؤشراً على وجود تيارات داخلية بدأت تدرك أن سياسة القمع والإقصاء لم يعد ممكناً في سوريا الجديدة.
لكن الاختبار الحقيقي لا يكمن في السماح بإنشاء تيار سياسي هنا أو هناك، بل في مدى قدرة أي معارضة على التحرك بحرية دون قيود أو تهديدات. فالتعددية السياسية الحقيقية لا تقوم بمجرد الاعتراف بوجود معارضة، بل تتجلى في قدرة هذه المعارضة على تنظيم نفسها، ومخاطبة الشارع، والمشاركة في الحياة السياسية دون خوف من الملاحقة أو التضييق. والمعارضة الحقيقية لا يمكن أن تكون فعالة إلا إذا كانت تمتلك القدرة على التعبير عن تطلعات الشعب، وتمثل مختلف فئاته، وليس فقط أن تكون ضمن هامش يُسمح به بقرار فوقي.
وإذا أردنا الحديث عن مستقبل سوريا بعد تحررها من نظام بشار الأسد، فلا بد من التأكيد على ضرورة وجود حركات سياسية متعددة تعبّر عن مختلف الاتجاهات والتيارات الفكرية والمجتمعية. إن أحد أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الأنظمة المستبدة في المنطقة هو احتكار السلطة ومنع أي تعددية سياسية حقيقية، مما أدى إلى تكريس الديكتاتورية وإضعاف الحياة السياسية، وجعل أي عملية تغيير تُواجَه بالفوضى بدل أن تكون انتقالاً سلساً نحو الديمقراطية. لهذا، فإن أي نظام سياسي جديد في سوريا يجب أن يقوم على أساس التعددية الحزبية، وحرية التنظيم السياسي، وضمان حق جميع السوريين، بمن فيهم المهجرون واللاجئون، في المشاركة السياسية دون تمييز.
في الواقع، المشهد السوري اليوم لم يعد يقتصر على سلطة واحدة ومعارضة تقليدية فقط، بل أصبح أكثر تعقيداً مع وجود عدة جبهات سياسية داخل وخارج سوريا، تتباين في مواقفها و رؤاها لمستقبل البلاد. هناك قوى سياسية معارضة في الداخل تحاول التكيف مع الواقع المفروض، وهناك معارضة خارجية تتمسك بمواقفها الجذرية حتى لو لم تظهر بعد بشكل رسمي، كما أن هناك فصائل عسكرية وأطرافًا إقليمية ودولية لكل منها أجنداتها الخاصة. هذا التعقيد يجعل من الضروري إيجاد إطار سياسي شامل يضمن تمثيلاً حقيقياً لمختلف القوى، بدلاً من إعادة إنتاج سلطة مركزية قمعية تحت أي مسمى جديد.
إن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مجرد تغيير في الوجوه، بل تغيير في آليات الحكم، وفي طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع. فالحرية السياسية لا تعني فقط السماح بإنشاء أحزاب أو تيارات، بل تعني أولاً إنهاء سياسات القمع الأمني، وضمان استقلالية القضاء، وإتاحة الفرصة لجميع الأصوات للمشاركة في بناء مستقبل البلاد. ومن دون هذه الأسس، سيظل أي تغيير شكلياً، ولن يحقق ما يطمح إليه السوريون من حرية وعدالة وديمقراطية من أهداف الثورة السورية التي دفعت الثمن باهض للوصول إلى أهدافها.