fbpx

دراسة حول رواية الكاتب السوري عماد نداف “حكايات حارة المؤيد”

0 15

الجزء الثاني: اهربوا.. اهربوا.. اهربوا!

في حكايات حارة المؤيد التالية لرواية عماد نداف استكمال لروايات الجن وظهورها في منازل حارة المؤيد التي انتقل منها جراء الخوف والتحولات السياسية بعد الانفصال وظهور عامل جديد في الحياة السياسية السورية هو الأمن والشرطة اللذين كان فادي المحموم في العناية المشددة يخاف منها خوفاً شديداً.

مع انتهاء عهد الوحدة ينكفىء الناس إلى أشغالهم ويقل اهتمامهم بالوضع العام ويطغى الجانب العاطفي والذكريات المرة عبر حكايات العشاق في حارة المؤيد كصورة جديدة للحياة الاجتماعية المتجددة وفق ثنائيات فادي وديمة، وملك وشوقي ومالك ونجوى. وكانت هذه القصص لعشاق حارة المؤيد موازية لحكايات الجن التي هي نقيض للحرية ونقيض للديمقراطية ونقيض للسلام والاطمئنان فحيثما يظهر الجن تتعكر الحياة وتتحول إلى جحيم على عكس الحب الذي ينشر السعادة والنجاح…

ومع أن نداف اعتمد الرمزية في المواجهة بين العقل والجهل والخرافات وبين الناس الطيبين والجن رمز الخوف والخرافة.. وقام بهدم قصر خالد المؤيد الفخم الذي ظهر الجن فيه كما ظهر الجن في منزل القوتلي وفي بيت ناظم الأيتوني ومالك عبد ربه وفي البيت الأسود المهجور فإذا بالجن تعكر صفاء الحياة الاجتماعية والسياسية كما سجل أبو صلاح على دفاتره في مذكراته اليومية. فالقوة التي ظهرت عند أم ناظم كانت نتيجة مرض عادي وليس جراء لطشة الجان.. ووصول خالد المؤيد الى مرحلة الجنون وتجوله في الحارات الشامية بعد أن كان محاميا وسياسيا بارعا من أسرة شامية عريقة والمأساة التي عاشتها زوجته وهي تواجه الجن والقطط السوداء في بيتها قصر حارة المؤيد بعد ان تّفشت الخرافة عن الجن والقطط السوداء المخيفة بين أبناء الحي والإحياء المجاورة فهربت من المجتمع وعادت إلى بلدها فرنسا مع ابنها عادل..

اهتم عماد نداف بالشكل كاهتمامه بالمضمون وكان يعكس ذلك عبر تصوير شخصياته وحركتهم وملابسهم وملامحهم وتقاطيع وجوههم كما لو انه يسجل فيلما سينمائيا وهو العارف بتفاصيل الحياة الشامية ومداخيلها ودقائقها فإذا أراد أن يتحدث عن شخصية في موقف ما فان البوابة والبداية تكون عبر وصف الأجواء العامة والمناخ وفي الغالب يذكرنا عماد دائما بأي يوم نحن وبأي فصل وبأي مكان فعندما نهضت ملك عبد ربه للرقص في إحدى الحفلات كتب نداف في وصفها «نهضت ملك عبد ربه للرقص كانت ترتدي ثوبا من الساتان السماوي موشى بخيوط زرقاء وتزينه حبات من الخرز في أماكن الصدر والنحر.. وفي رسغها خشخشت أساور الذهب الخالص أما عند عنقها فقد تحلت بطوق الماس أعطته لها أمها قبل العرس».

سجل أبو صلاح في دفتره يوم زواج ابنه مجيد من رضوى ابنة الشيخ عبده الخرسا: انشغل الناس بصداقة عبد الناصر وشكري القوتلي.. ونحن أقمنا عرساً مطنطناً لابني مجيد على رضوى ابنة الشيخ عبده الخرسا وتمت الأمور على خير.. وسيسافر ابني مجيد مع عروسه الى الرياض خلال أيام انشاء الله..

يقسم الكاتب عماد نداف روايته إلى أجزاء ويضع لحكاياته العناوين مثل (حكاية فتيات البيت الأسود – وسقوط الحمامة من المئذنة – وغرفة العناية المشددة – حب تحت المطر) مع أن هذه العناوين لم تغير من سياق الحدث وربما أضعفته وكان يمكن تجاوز هذه العناوين لأن القارئ لم يكن في سياق القراءة يهتم بها لأن الرواية ليست مجموعة من القصص القصيرة بل هي في بنيانها قصة طويلة ولم يكن لهذه العناوين أي ضرورة لافي زمانها ولا في مكانها وقع الكاتب في إشكالية أخرى تتعلق بالخلاصات والنتائج المنطقية التي يمكن ان يستخلصها القارئ منها حيث الصراع بين العلم والخرافة بين الدكتور خالد خريج الجامعات الفرنسية وبين الجن والقطط السوداء وكيف انتصرت الخرافة وهذا عكس ما نفكر فيه وعكس ما أراده الكاتب الذي أراد أن يقول بعد أن عادت زوجة خالد الفرنسية وابنها عادل مع الأمير الجزائري ان العلم ينتصر على الجهل إلا أن جرعة الحكايات عن الجن كانت طاغية ومخيفة ومبهمة أحيانا فالكاتب علماني بطبيعته ولكن أبناء الحارة كانوا يميلون الى تصديق حكايات الجن..

في الجزء الأخير من الرواية تبدأ الحارة بالتفكك بعد الانفصال بين سورية ومصر ويحلم الناس بالعودة إلى زمن الخمسينات والى زمن الرجالات الوطنية بعد الاستقلال حيث تشهد سورية تبدلات في الحياة الاجتماعية والسياسية في سورية بعد استلام البعث مقاليد الحكم وتتغير حارة المؤيد وتتبدل أحوالها وينخفض مستوى المعيشة فيها ويقل نشاط الناس وتنتقل معظم العائلات القديمة منها وتسكن بعيدا عن الحارة إلى أماكن أكثر أمناً وأقل خوفاً.

ومع أنني قرأت الرواية منذ سنة فان ما يطفح على سطح الذاكرة منها ليست مذكرات أبو صلاح السياسية والاجتماعية والتي تشكل تاريخ حارة المؤيد حيث تتغير الدنيا في هذه الحارة بعد الانفصال وعودة نشاط الأحزاب وتحويل أحد المنازل في الحارة إلى مكتب للحزب الشيوعي السوري وكأن الحارة في ذلك الوقت لم تعد تلك الحارة الهادئة التي ينعم أهلها بالخيرات والسلام والأمن بل تحولت إلى مكان للخوف من الجن تارة ومن الشرطة تارة أخرى فهجرها أهلها كما كتب أبو صلاح في مذكراته.

كانت حارة المؤيد صورة مصغرة عن وطن جميل ينعم أهله بالحرية والوفرة ولكن الاختلافات الحزبية وتكفير بعضهم لبعضهم الآخر خلط الحابل بالنابل وباتت الحارة نقمة وليست نعمة فهجرها أهلها وتفرق الجيران والخلان والعشاق ليبقى فادي وحيداً ومحموماً في المشفى يحلم ويحلم بعودة الزمن الجميل وعودة السلام فديمة الحبيبة ليست إلا وهماً والحياة الهادئة المفعمة بالسلام لن تعود في مجتمع تعمل السلطات على التدخل في كل مفاصل الحياة فيه بعد أن تخلت الطبقة البرجوازية الميسورة التي شكلت عبر الأزمان الدعامة الأساسية لحياة أبناء الشام وكانت نموذجاً على مستوى المنطقة والعالم قي طرائق وعادات أبنائها الذين ورثوا القيم والعادات الأصيلة أباً عن جد في بيئة مستقرة ومتجانسة ومتعاونة وقد عشنا مع أسر حارة المؤيد بيت الأيتوني والعطري والخرسا والمؤيد والأمير الجزائري والرئيس شكري القوتلي وعبد ربه وكان هؤلاء يشكلون مجتمعاً ثقافياً واجتماعياً ويتناولون السياسة وينخرطون فيها دون تردد وبشكل تلقائي غير أن هذا الواقع كله تغير وبدأ أبو صلاح في الجزء الأخير من حكايات الجن والعاشقات يشكو من الفقد ويتذكر جيرانه الذين تركوا الحارة ولم يبق فيها إلا هو والشيخ عبدو الخرسا وابنه عبد الرزاق وقد استبدل جيرانه الطيبون الذين عاش معهم عمراً طويلاً بالغرباء الذين يمتهنون السياسة ولا يعرفون التجارة ولا التعاون.

ورغم أن التحولات على حارة المؤيد كانت عاصفة وكبيرة ولكن القطط السوداء ظلت المحرك الأساسي للأحداث فحيثما ظهرت كانت الحياة تتبدل نحو الأسوأ حتى وصل الأمر إلى مكان لم تعد الحارة تطاق ومع أن زوجة خالد المؤيد الفرنسية عادت مع الأمير الجزائري إلى الشام مع ابنها عادل إلا أن ما يترسخ في عقل القارئ عكس ما يبغي الكاتب فعودة المرأة الفرنسية إلى القصر المهدم والمهجور تشير إلى أن حكاية الجن لا تعدو كونها خرافة وان عودتها تؤكد ذلك إلا أن زوجها الدكتور خالد بقي يجوب الحارات متسكعا وهو يراقب رحيل الجيران عن الحار وينادي بأعلى صوته: اهربو… اهربوا… اهربوا…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني