fbpx

خمسة تحديات رئيسية تواجه عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة

0 5٬091

لم يكن انتصار الثورة السورية مفاجئاً بل كان حتمياً، وكانت المفاجأة بالانهيار السريع لنظام الأسد بفعل ما ألحقت به الثورة من ضربات عنيفة خلال أربعة عشر عاماً أفقدته كلّ قواه الذاتية النوعية وأحالته بيت عنكبوت يعتمد في بقائه على عوامل قوة خارجية، في حين كان معين قوى الثورة السورية نبعاً متدفقاً لا ينضب ويعتمد على القوى الذاتية والنذر اليسير من الدعم الخارجي، وكانت حلبة الملاكمة السورية في السابع والعشرين من تشرين الثاني من العام الماضي عبارة عن نزال ملاكمة بين شاب قوي وهرم ضعيف وانتهت المباراة بعد أحد عشر يوماً بالضربة القاضية في نزال صاعق أدهش القريب والبعيد.

وبما أنّ الثورة هي وسيلة وليست غاية، وهي بجوهرها فعل هدم لسلطة تمّ الإطاحة بها مؤخراً، وإزالة تلك السلطة ومحو آثار صنيعها في الدولة والمجتمع هو الغاية الأولى التي تحقّقت من التضحيات الهائلة التي تم تقديمها ويمكن تسمية تلك المرحلة بالجهاد الأصغر، أما الجهاد الأكبر فهو إعادة بناء ما هدمه النظام السابق في المجتمع والدولة وبناء مستقبل جديد للشعب السوري يتناسب مع التضحيات الهائلة التي قدمها من أجل ذلك.

وأوضح السيد أحمد الشرع في لقائه مع قناة الحدث مؤخراً هذا المعنى المهم جداً بقوله إنّ الثورة انتهت ونحن الآن في مهمة بناء مؤسسات الدولة وليس تسيير شؤونها، وبالتأكيد هذه المهمة الشاقة تعترضها صعوبات جمّة منها:

1- الثورة المضادة واجتثاث فلول النظام البائد:

يجب مراجعة أسباب نجاح الثورات المضادة التي انقلبت على بعض التجارب الناجحة وأجهضت التجربة برمتها، وتجنب أخطاء قد تكون وقعت فيها القيادات المنبثقة عن الثورات، وقد تكون تلك الأخطاء تتعلق بطريقة ومنهج إدارتها للمرحلة وتشوّش الرؤية أو حرق المراحل، أو عدم تقدير جيد للموقف الإقليمي والدولي من التغيير الجديد.

عموماً نموذج انتصار الثورة السورية هو نموذج فريد من نوعه وهو قد يقلق بعض دول الإقليم لكنه لا يخيفها، أما القلق فهو ناتج عن انتصار إرادة الشعوب في التغيير مهما طال الزمن ومهما تعرضت قوى الثورة وحواضنها الشعبية من قتل واضطهاد وعنف مفرط وتهجير.

أما عن مصدر عدم خوف بعض دول الجوار من النموذج السوري فهو لكونه نموذجاً مسلحاً أولاً، ويمتلك بقعة أرض محررة داخل الوطن وحاضنة شعبية داعمة ثانياً، ووجود حدود خارجية مع دولة تدعمه ثالثاً، وتلك الشروط الرئيسية الثلاثة ليس من السهل توفرها في مكان آخر.

ناهيك بملاحقة الفلول بطريقة قانونية وتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية والعدالة التصالحية في مرحلة لاحقة وجبر الضرر والتعويض المادي والمعنوي وذلك يعتبر ضرورياً جداً لبناء مجتمع جديد ودولة قوية.

2- احتكار امتلاك القوى العسكرية والأمنية في الدولة الجديدة:

لا يمكن أن يستقر مجتمع ويشرع في بناء دولته مع وجود فوضى سلاح، ومن الشروط الرئيسية لبناء الدول واستمرارها هو احتكار السلطات الشرعية للقوة المشروعة أو ما يسمى بالعنف المشروع، فمثلاً فشلت التجربة المصرية الوليدة بعد نجاح الثورة حيث تمكنت من إسقاط رأس النظام وليس النظام نفسه والذي كان يحميه الجيش المصري وقوى الأمن المختلفة بمعنى أنّ وسائل العنف الشرعي بقيت في أيدي النظام القديم وكانت السلطة المنتخبة التي تقود عملية التغيير عزلاء وهو الامر الذي سهّل من عملية الانقضاض عليها ووضعها في السجون بتهم الإرهاب.

وفي تونس تمت نفس العملية بدعم الجيش التونسي لعملية انقلاب قام بها رئيس مدني منتخب وأطاح بكل التجربة، وكان خطأ قيادة التغيير في تونس أنها لم تحتكر وسائل وأدوات العنف الشرعي.

ومن دول الربيع العربي التي فشل نموذجها هي ليبيا، حيث انتقلت عقلية الفصائل وسيطرت على المشهد الجديد بعد إسقاط القذافي، وتم التسرّع بالاستماع لنصائح الدول الغربية بإجراء انتخابات مبكرة وقبل بناء مؤسسات الدولة وأهمها الجيش الوطني، فجرت الانتخابات بمعايير هوياتية بين متدين وعلماني وشرق وغرب ومن قبيلة كذا وقبيلة أخرى وأنصار التغيير وأنصار النظام الساقط، وباحتفاظ الفصائل العسكرية بسلاحها وولاءاتها ومصادر تمويلها وعلاقاتها الخارجية، فنشبت حرب أهلية مازالت مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات.

3- مشاركة كل قوى المجتمع الحية في بناء الدولة الجديدة:

لم تكن الثورة السورية ثورة فصيل أو طائفة أو منطقة معينة بذاتها ولكن لا شكّ أنّ حاملها المجتمعي الذي دفع الثمن الأكبر من تكاليفها والذي قاد عملية إسقاط النظام إيذاناً ببدء عملية التغيير هو من الغالبية العربية السنية، وهو ليس مبرراً كافياً للاستئثار بكامل السلطة الجديدة بل بمشاركة الجميع بها. ما يعني بناء دولة قوية متماسكة أساسها العدل والتساوي في الحقوق والواجبات وهي ما تُعرف بالمصطلحات الحديثة بدولة المواطنين جميعاً، بحيث يشعر كل مواطن أنه مشارك ببناء دولته واختيار سلطته ومحاسبتها أو مكافأتها، وهذا النموذج من الدول هو الذي يستمر ويزدهر.

وتلك المشاركة يكون أساسها بناء عقد اجتماعي جديد في سوريا بالتوافق والتراضي ودون الاستقواء من طرف على آخر بالسلاح أو بدعم قوى من خارج الحدود، واستناداً إلى العقد الاجتماعي يتمّ بناء دستور يحمي الجميع ويجد الكل أنه ساهم في صياغته، ولكن يجب التسليم أنّ المرحلة الانتقالية سيقودها من أسقط النظام لأنه القوة الوحيدة المنظّمة في البلاد حالياً وتقوم بحفظ الأمن والاستقرار وملاحقة الفلول.

4- سيطرة السلطة الجديدة على الثروات الوطنية:

كل مصادر الثروة العامة سواء في باطن الارض أو ظاهرها هي ملك للمجتمع الذي تُمثّله الدولة التي تقودها السلطة المتوافق عليها، وفي السنوات الأولى يجب أن تتمتع السلطات في العاصمة بمركزية قوية جاذبة للأطراف وذلك لحين الانتهاء من جمع السلاح المنفلت وحل الميليشيات (طوعاً أو كرهاً) واقتلاع فلول النظام البائد من كل مرافق الدولة وثنايا المجتمع، وإنهاء أيّ أحلام انفصالية تحت أيّ غطاء سواء كان تحت ذرائع الفيدرالية أو اللامركزية الموسعة لحين التعافي من تداعيات الحرب، وبعدها يمكن طرح أيّ مشاريع أخرى.

وتقوم الدولة الوليدة الشرعية بصياغة خططها الإنمائية العادلة بين المناطق.

إنّ امتلاك السلطة الشرعية لمصادر الثروة يُؤمن لها استقلالية قرارها وعدم الارتهان لأحد لأنها ستقوم ببناء أهمّ مؤسسات الوحدة الوطنية (الجيش والأمن) إضافةً للإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم وغيرها.

إنّ إعادة سوريا الجديدة كوحدة مجتمعية وسوق اقتصادية جغرافية واحدة بعد التشظي الذي حدث هو من العوامل الرئيسية في تماسك المجتمع والدولة واللحمة الوطنية المبنية على كثير من المشتركات الثقافية والدينية والمصالح الاقتصادية.

5- الاعتراف الخارجي بالدولة الوليدة:

يجب على هيئة تحرير الشام أن تَحلّ نفسها ويبدو أنّ هذا ما سيحصل خلال جلسات انعقاد المؤتمر الوطني كما صرّح الشرع نفسه، حيث لا يوجد أسبقيات للمجتمع الدولي بإزالة منظمة سابقة ارتبط تاريخها بتنظيم داعش والقاعدة إن تمّ رفعها من لوائح الإرهاب الدولي مهما حاولت هي نفسها تغيير ارتباطاتها وأسمائها وأنجزت تحولات حقيقية في الفكر والممارسة، لذلك من الخطوات الهامة في نيل الاعتراف الدولي حل الهيئة لنفسها.

ولأنّ الكون قرية صغيرة بفعل المصالح والمخاوف والعولمة ووسائل الاتصال الحديثة، لن تنجح أيّ دولة في عدم إقامة علاقات جيدة مع معظم دول العالم، وتقديم نفسها كواحة للاستقرار وعدم تهديد أمن الغير.

إنّ الاعتراف الخارجي بعملية التغيير في سوريا هو في غاية الأهمية لأنّ الملف السوري مُعقّد ومتشابك ويوجد شبه وصاية دولية عليه من خلال قرارات مجلس الأمن السابقة والتي تتدخل بكل تفاصيل العملية السياسية في سوريا.

كما أنّ الاعتراف الخارجي سيسهم بالتأكيد في رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا والتي كان مقصوداً بها نظام الأسد البائد، ومن البديهي أنه لا يمكن للتعافي السوري من آثار المرحلة السابقة إلا بدعم خارجي قوي لمشروع النهوض والاستقرار السوري الجديد.

كما لا يخفى على أحد أنّ الاعتراف الدولي والإقليمي بالسلطة الشرعية الجديدة سيسهم في سحب البساط من تحت أقدام من يُفكّر في داخل سوريا من تخريب عملية التعافي تحت ذرائع مختلفة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني