
خطة إنعاش سريع للاقتصاد السوري
استلمت الحكومة الثورية الجديدة السلطة في سورية يوم سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024، واستلمت معها بلداً مدمراً واقتصاداً متوقفاً أو منهاراً بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ. وهذا الواقع فرض على هذه الحكومة التزامات ومطالب كبيرة جداً في ظل عقبات الشرعية الدستورية والدولية التي كانت ولا تزال تواجهها.
ولهذا كانت أصوات الاستغاثة لا تنفك تطالب هذه الحكومة بإيجاد حلول سريعة ولو مؤقتة للحالة المعيشية السيئة التي لا تزال مستمرة بعد مرور نحو أربعة أشهر على استلام الحكم. وأهم هذه المطالب كانت تتمحور حول توقف عجلة الاقتصاد، وانتشار الفقر الشديد على حافة المجاعة، وانهيار الدخل، وارتفاع التضخم، وانتشار البطالة، مع غياب الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والمواصلات. الحكومة السورية الحالية ملزمة بالسعي لإنقاذ شعبها من المجاعة؛ إنه واجبها الوطني والدستوري والسياسي أن تبادر فوراً لوضع خطة إنعاش اقتصادي سريع بعيداً عن الاعتبارات السياسية والأيديولوجية.
واقع الانهيار الاقتصادي في 2025
نعم، إنه انهيار فعلاً وليس قولاً. نحن نعلم أن نظام الأسد لم يدخر جهداً في تدمير سورية. ولو لم تكن له مصلحة ذاتية بالإبقاء على بعض الأشخاص والأنشطة والمباني في دمشق وبعض المدن الأخرى، لكان الحقها بأخواتها كأنقاض. المصائب كثيرة وفظيعة، ولن نعيد ذكر جرائم الأسد، فالكتب لا تكفيها. ولكن ومع الدمار الفعلي الذي خلفه نظام الأسد البائد، يشعر السوريون أن حكومتهم الجديدة تقف حائرة أمام ضخامة الاحتياجات الوطنية وقلة الموارد.
لقد أتيحت لي الفرصة شخصياً لزيارة بعض المناطق السورية بدءاً من دمشق حتى دير الزور خلال شهر شباط الماضي. وأكدت لي هذه الجولة أن درجة البؤس خارج دمشق هي أشد منها داخلها. السوريون داخل سورية يعرفون أن الوضع المعيشي هو الآن أسوأ مما كان عليه قبل سقوط النظام البائد، وخاصة فيما يتعلق بالكهرباء والغلاء. إن جنون الأسعار (التضخم) بشكله الحالي غير مفهوم، إذ إن التقديرات تضعه حول 300%، خاصة في المواد المعيشية الأساسية، حتى وإن انخفضت أسعار بعض المواد الأخرى. إذ يبلغ متوسط دخل الفرد بين 20 إلى 40 دولاراً شهرياً فقط. وهذا في ظل أفق مسدود حتى الآن، بمعنى غياب أي نشاط أو عمل يعوض ذلك، سواء في القطاع الخاص أو في القطاع العام. وتزامن ذلك مع إغلاق أغلب مؤسسات الدولة التي تنظم الأمور. وأصبحت البطالة عالية جداً، وبالتالي تعمق الفقر المدقع. وربما أحد الأسباب المعرقلة هو استمرار العقوبات الدولية المفروضة على الاقتصاد السوري، سواء نفسياً أو فعلياً. إنها معيقة تماماً لعودة الأموال السورية للاستثمار داخل البلد.
خطة للإنعاش الاقتصادي السريع
هذه الخطة السريعة لن تتطلب أموالاً أو استثمارات حكومية مهمة من خزينة الدولة، وإنما تتطلب التزاماً حكومياً صريحاً بتبني جهد الإنعاش هذا. ولتسهيل الحل، فإن الأفضل أن نقوم بتجزئة المصيبة إلى مراحل أو قطاعات. والخطوة الأولى هي الإسعاف، أو اقتصادياً الإنعاش.
ومن هذه الأفكار التي يمكن تطبيقها سريعاً ما يلي:
- تفعيل دور الوزارات الحكومية في قطاع الخدمات أساساً: وهذا يأتي عن طريق تكليف مسؤولين خبراء بوزارات الخدمات الأساسية مثل وزارات الاقتصاد والصناعة والزراعة والتجارة والكهرباء والمواصلات، بوزراء تكنوقراط وتفويضهم بصلاحيات إدارية واسعة للإسراع بإنجاز الإنعاش الاقتصادي السريع. والسبب في هذه الخطوة هو أن الاقتصاد السوري لا يزال محكوماً بسيطرة الدولة. وآلية السوق الحر وحدها، التي أعلنت الحكومة عن تبنيها، غير كافية الآن للإنعاش بدون التدخل الذكي للدولة إلى حين أن يقوى القطاع الخاص ليأخذ دور القيادة.
- تحرير سعر صرف الليرة ورفع يد الدولة عن التدخل بالتسعير: إلا بصورة شمولية غير مباشرة ومن بعيد. فتناقض أسعار صرف الدولار مقابل الليرة السورية يربك ويعرقل النشاط الاقتصادي الحقيقي. كما أن القيود الحكومية السابقة السارية على حركة وأسعار الاستيراد والتصدير – سواء من قبل المصرف المركزي أو المصارف أو وزارة الاقتصاد – تعرقل الحركة وترفع التكلفة.
- تسهيل إجراءات الاستثمار الوطني الداخلي وتفكيك شبكة البيروقراطية القاتلة: مع إعلان ضمانات سياسية وقانونية مؤكدة بحرية العمل والإنتاج. وهي إجراءات إدارية غير مكلفة مادياً على الدولة. إن الضخ الإعلامي المكثف عن قرب وصول استثمارات خارجية قد خلق إحباطاً لدى المستثمر الوطني تحسباً لطوفان مشاريع إعادة الإعمار القادمة. للأسف، لا أتوقع أن تصل هذه الاستثمارات قريباً بالمعدل والسرعة التي يروج لها. لنكن واقعيين. ولهذا فإن على الحكومة إصدار بيان صريح بضمانات قانونية للمستثمرين الوطنيين بأنهم محميون، وأن ما سيأتي من جهود الإعمار لن يضرهم، بل سيكونون شركاء معهم، مع تسهيل الإجراءات الإدارية والمالية بحيث يستطيع المستثمر الوطني أن ينجز مشروعه خلال أسابيع فقط وليس شهوراً أو سنيناً، كما كان الأمر سابقاً.
- إعادة فتح وزارات ومؤسسات الدولة الخدمية بكاملها: وفق القوانين السارية ريثما يتم غربلتها تماماً وتعديل لوائحها مع الوقت. وهذا التنشيط ليس له بصمات سياسية أو أيديولوجية مؤثرة، وإنما لتنظيم النشاط الاقتصادي وانطلاقه من جديد. فبدون الوجود الرسمي للوزارات المعنية بقوة وبكفاءة، فإن النشاط الاقتصادي سيبقى مرتبكاً وغير مجدٍ.
- تعزيز الثقة بين الحكومة ومجتمع الأعمال: حتى الآن، الثقة بين الحكومة ومجتمع الأعمال ضعيفة. ولضمان الثقة بالقوانين والعدالة، يجب المبادرة فوراً إلى تشكيل أولاً: هيئة العدالة الانتقالية لمجرمي الحرب، وثانياً: هيئة المحاسبة المالية، وبمساعدة فنية دولية عاجلة. ورغم أن هاتين الهيئتين ليستا مرتبطتين تماماً بالإنعاش، إلا أنهما ستعملان معاً على نزع الخوف من قلوب المستثمرين الوطنيين بعيداً عن اعتبارات المحاسبة والعقاب، وتعزيز المناخ الاستثماري الإيجابي.
- تفعيل شبكة الربط الكهربائي السورية القائمة مع الأردن وتركيا: وبكبسة زر، يمكن تفعيل شبكة الربط الكهربائي السورية مع الأردن وتركيا، والتي تم إنجازها منذ عام 1997، لحل مشكلة الكهرباء بسرعة ريثما يتم تجديد الطاقة الكهربائية السورية. وقد كنت شخصياً ضمن الفريق التفاوضي في الصندوق الغربي للإنماء في الكويت الذي أكمل شبكة الربط الكهرباء العربية مع شبكة الكهرباء السورية باتفاقيتين: الأولى مع الأردن (مع الشبكة العربية)، والثانية مع تركيا (مع الشبكة الأوروبية). فهذا الربط يمكن أن يوفر الكهرباء للشعب السوري بالكامل. طبعاً، هذا يعتبر شراء بالدولار، ولهذا فإن نظام الأسد رفض تفعيل هذه الشبكة.
طبعاً، هذه الخطوات وحدها ليست كافية لحل كل المشاكل، وإنما هي جزء أو مرحلة سريعة لتحريك عجلة القطار. وفلسفتنا هنا هي – كما ذكرنا – تجزئة المصيبة ليسهل حلها. وأنا على قناعة تامة أن تنفيذ هذه الخطوات سوف يجعل قطار الاقتصاد يتحرك بسرعة بعيداً عن حافة الجوع، وأنه سينمو بمعدل ربما يفوق 5% خلال سنة واحدة فقط.
فنحن شعب لا يستحق الجوع.