fbpx

حول قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.. دراسة في جزءين

0 220

في حين يتناول الجزء الأول قصة الاتفاق المُعلنة وما مكن من حصوله، وطبيعة ردود أفعال الأطراف المعنية، إضافة إلى أهم المبادئ المنصوص عليها، وبعض التداعيات المحتملة؛ يحاول الجزء الثاني مقاربة إجابات حول كيفية إدارة حزب الله معركة ترسيم الحدود البحرية، وما هي الأهداف التي سعى لتحقيقها، وطبيعة الإنجازات التي تحققت.

الجزء الأول:

يبدو لي أن التوافق الحالي حول توزيع مناطق النفوذ والسيطرة البحرية بين لبنان (حزب الله) وإسرائيل برعاية أمريكية، وما نتج عنه من صفقة ترسيم الحدود ، وما قد يترتب عليه من تداعيات سياسية و أمنية على صعيد العلاقات المستقبلية بين لبنان وإسرائيل ، قد يكون أقرب إلى اتفاق وقف إطلاق النار وفصل القوات الذي رعاه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسنجر بين إسرائيل وسوريا خلال ١٩٧٤، وخلق حالة تهدئة مستدامة على طول خطوط الجبهة البرية حتى تاريخه[1].

أولاً: التساؤل الأول الذي يتبادر إلى الذهن:

ما هي قصة التوافق، وما الذي مكن اليوم إنجاز الاتفاق، الجاري العمل علية منذ 2020؟.

تتسارع أحداث القصة المُعلنة[2] مع أوائل تشرين الأول 2022، حين سلم الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين لبنان عرضاً خطياً مع اقتراحات للتسوية النهائية في اتفاق ترسيم الحدود البحرية و إنتاج الغاز بين لبنان وإسرائيل، وفقاً للخط 23، ليتلقى في 4 منه عرضاً مضاداً، عبر سفيرة الولايات المتحدة في بيروت، يتضمن قائمة بالتعديلات التي يرغب لبنان بإدخالها على اقتراح كيفية رسم الحدود، كما أعلن نائب رئيس البرلمان اللبناني، الياس أبو صعب، المكلف بملف ترسيم الحدود، مؤكداً أن لبنان لن يدفع قرشاً من حصته في حقل قانا لإسرائيل، وهذا من صلب الاتفاقية ولا حقوق لإسرائيل من قانا.

في اليوم التالي، 5 حزيران، ومع وصول إينرجي إلى إسرائيل، تم استدعاء هوكشتاين إلى بيروت على عجل، حيث أُعلم بتخلي بيروت عن مطلبها الأقصى (الخط 29)، واستعدادها لإتمام الصفقة، وفقا للخط 32.

في الحادي عشر من الشهر، وبعد انتهاء الجولة الأخيرة من حملة الضغوط التي مارستها واشنطن، وكان الطرفان على وشك التوافق، يحول دونه في اللحظة الأخيرة اقتراح لبناني، يُطالب بضرورة تعديل الصياغة التي تعتمد الخط 23، والعودة إلى حدود الخط 29، الذي اقترحته لبنان سابقاً وفقاً لدراسات جيشه، والذي يعترف للبنان بجزء من حقل كاريش.
مباشرة، ترفض إسرائيل اقتراح التعديل اللبناني الجديد، وتتخذ قراراً ببدء اختبار التدفق العكسي في حقل كاريش (فحص خط الأنابيب قبل بدء عملية الإنتاج).
في تلك اللحظة الحرجة، أخذت العلاقات منحىً تصعيدياً، لكن تهديدات نصر الله ونجاح الحزب في إيصال طائرات بدون طيار، غير مسلحة، إلى موقع حقل كاريش في 29 حزيران و2 تموز والتحذيرات اللاحقة بمهاجمة الحزب للمنصة، وما أثارت في إسرائيل من توترات أمنية ومخاوف من التصعيد العسكري، في ظل حالة انتقال سياسي وفي أجواء انتخابات الكنيست، إضافة إلى شعور متبادل بوجود فرصة محدودة ينبغي استغلالها وضغوط إضافية من هوكشتاين، قد تكون أسباباً مباشرة لتليين المواقف!.

حوالي منتصف تشرين الأول، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد والرئيس اللبناني ميشال عون أن النسخة النهائية، التي تعتمد الخط 23، كانت مقبولة لديهما وسيعملان على الحصول على إذن نهائي من قبل بلدانهم؛ علما أن الخط 23 يحرم لبنان من حقوقه في كاريش ويعطي إسرائيل حصة طَرفية من حقل قانا، ويتعارض مع معطيات الخط 29 الذي كان الجيش اللبناني قد وضعه لحدود المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة، وفقاً لدراسة عام 2019 استندت إلى وثائق وخرائط موثوقة.

لاحقا، في تعليق لبيد، في بداية الجلسة الخاصة لمجلس الوزراء للمصادقة على الاتفاقية البحرية، قال إن هذا الاتفاق يعزز أمن إسرائيل وحرية عملنا ضد حزب الله والتهديدات التي يتعرض لها شمالنا. هناك إجماع نادر في المؤسسة الأمنية فيما يتعلق بضرورة هذه الاتفاقية.

وأضاف لبيد: إن الاتفاق يحظى بدعم أميركي وأوروبي ودولي، ويشمل ضمانات دولية، مشيراً إلى أن إسرائيل حققت إنجازاً اقتصادياً بعد بدء ضخ الغاز من حقل كاريش، وإنها ستحصل على 17% من غاز حقل قانا.

مقابل هذا التأييد والتبني الرسمي، من الجدير بالذكر معارضة منتدى كوهوليت، لسياسات الحكومة، وقد قدم شكوى أمام القضاء، وطالب بإجراء استفتاء على شرعية الاتفاق!.

من جهته، الرئيس اللبناني أكد أن إنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية يعد عملاً تقنياً، ليست له أية أبعاد سياسية!.

هناك، في واشنطن، عبر الرئيس الأميركي جو بايدن عن فخره وتهنئته للبنان وإسرائيل بإبرام اتفاقهما رسمياً لحل النزاع الحدودي البحري الذي طال أمده، على حد تعبيره.

وصف بايدن الاتفاق بـالتاريخي، قائلاً إنه يضمن مصالح البلدين، ويمهد الطريق لمنطقة أكثر استقراراً وازدهاراً؛ مشدداً على أن الولايات المتحدة ستواصل عملها كوسيط من أجل وفاء الطرفين بالتزاماتهما، وتنفيذ هذا الاتفاق.

ورأى أنه ينبغي ألا تكون الطاقة في شرق المتوسط سببا للصراع، بل أداة للتعاون والاستقرار والأمن والازدهار، معتبراً أن الاتفاق خطوة في سياق تحقيق رؤية لشرق أوسط أكثر أمناً وتكاملاً وازدهاراً، لما فيه مصلحة جميع شعوب المنطقة، على حد تعبيره.

هنا، من موقع الحدث، قال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله إن مهمة المقاومة في هذا الملف قد انتهت، معتبرا ما حدث انتصارا كبيرا للبنان، دولة وشعبا ومقاومة.!

علماً أن لبنان وإسرائيل قد وقعتا وثيقة اتفاق ترسيم الحدود البحرية في مقر الأمم المتحدة، بالناقورة، جنوبي لبنان، بعد أن وقع عليها رأس السلطة التنفيذية في كلا البلدين يوم الخميس، 27 تشرين الأول.

ثانياً: أهم المبادئ المنصوص عليها في الاتفاقية:

في ضوء رفض لبنان الدخول في محادثات مباشرة مع إسرائيل، تمت صياغة الاتفاقية على شكل رسالة، وجهتها الولايات المتحدة إلى لبنان وإسرائيل، وتضمنت جميع البنود التي تم الاتفاق عليها، وإجراءات التنفيذ.

1- ترسيم الحدود البحرية:

اتفق الطرفان على ترسيم حدود دائمة وعادلة(permanent and adjustable boundary) على أساس الخط 23، بدءاً من أول 5 كيلومترات متاخمة للساحل، بغض النظر عن النوايا والتصريحات، يحدد الاتفاق بشكل واضح أن الحدود المرسومة هي حدود دائمة وعادلة تحل النزاع البحري بينهما، بما يشير إلى عدم إمكانية فتح هذا النزاع في المستقبل.

وفيما يتعلق بالآثار المترتبة على ترسيم الحدود البرية، فقد ذُكر أن ترسيم الحدود البحرية لن يؤثر على الحدود البرية الراهنة، التي رسمتها إسرائيل بعد انسحابها عام 2000.

ليس من النافل الإشارة إلى أن تنازل إسرائيل نظريا عن غالبية المنطقة المتنازع عليها بين الخط 1 الذي أودعته لدى الأمم المتحدة عام 2011 والخط 23 اللبناني (860 كيلومتراً مربعاً)، لا ينتج عنه عملياً سوى تخليها عن 5.8 كيلومتر مربع من المياه الإقليمية؛ بسبب وقوع معظم تلك المنطقة في منطقتها الاقتصادية الخالصة (EEZ).

2- إنتاج الغاز:

لم يتم ذكر حقل كاريش نفسه نظراً لأنه يقع بالكامل في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، ومن المفترض أنه لا يوجد ما يمنع إسرائيل من تشغيله. في الوقت نفسه، يُلاحظ تأكيد الاتفاق على حقوق لبنان الكاملة في حقل غاز صيدا – قانا المحتمل، والذي يعبر طرفه الجانب الإسرائيلي. في ذاك الجزء الطرفي من الحقل، سيجري البحث عن الغاز من قبل كونسورتيوم دولي موثوق، يفي بالمعايير المهنية العالية ولا يواجه عقوبات دولية، وسيبدأ عمله فور توقيع الاتفاقية، على أن تحصل إسرائيل على تعويض ما يتم الاتفاق على حجمه في المفاوضات بين إسرائيل والكونسورتيوم الذي سيعمل في قانا، الذي كما يبدو ستديره شركة توتال الفرنسية! لن يكون لبنان طرفاً في تلك المفاوضات، ولن يلتزم بمنح أية ضمانات، علماً نه سيتم منح الكونسورتيوم الفرصة للتنقيب فقط بعد الحصول على إذن من إسرائيل، وهو شرط مجحف بالحقوق اللبنانية!.

3- الدور المركزي للولايات المتحدة:
تلتزم الولايات المتحدة ببذل أقصى الجهود للتوسط بين إسرائيل ولبنان، وتبادل المعلومات والرسائل، في حالة نشوء خلافات بشأن تنفيذ الاتفاقية، أو في حالة اكتشاف حقول غاز إضافية.

لوحظ أيضاً ما يُشير إلى التزام الولايات المتحدة بمساعدة لبنان في حل معضلة الغاز على الفور وعلى أساس مستمر، دون مزيد من التفاصيل (قد يُشير هذا الموقف إلى الجهود المبذولة لنجاح صفقة نقل الغاز الإسرائيلي من مصر إلى لبنان، عبر خط الأنابيب العربي الذي يمر عبر الأردن وسوريا). من جهة ثانية، لا يوجد في الاتفاقية تفاصيل حول الضمانات الأمريكية تجاه إسرائيل، والتي قد تشمل ضمانات أمنية لمنع تحويل عائدات إنتاج الغاز من صيدا قانا إلى حزب الله!.

4- العلاقات الثنائية:

لا تتضمن الاتفاقية نفسها أي ذكر لجوهر العلاقات الإسرائيلية اللبنانية، باستثناء التعريف الذي يتفقان عليه بشكل دائم على ترسيم الحدود البحرية بينهما، الذي يعتبره بعضهم اعترافاً لبنانياً بإسرائيل.

5- الجوانب الإجرائية للتنفيذ:

سيدخل الاتفاق حيز التنفيذ في اليوم الذي ترسل فيه الولايات المتحدة خطاباً يؤكد أن الدولتين قد نفذتا إجراءات توقيع الاتفاقية.

ثالثاً: في تداعيات الاتفاقية على إسرائيل ولبنان:

يبدو جلياً أن الاتفاق يوفر مكاسباً لكلا الجانبين، بغض النظر عن طبيعة التنازلات التي قدمها كل منهما. بالإضافة إلى مساهمته في خلق ظروف استقرار إقليمي، على الصعيد الأمني، فإنه، على الصعيد الاقتصادي، يمكن لبنان من البدء في عمليات البحث عن الغاز والنفط في حقل صيدا – قانا، بعد أن عطله سابقاً اشتراط الجهات الدولية المختصة حصول توافق حول الحدود!.

فرصة لبنان الاقتصادية تأتي من إمكانية اكتشاف غاز، والبدء في إنتاجه خلال سنوات!.

مسألة أخرى لا تقل أهمية. قد يخلق الاتفاق البيئة السياسية الآمنة التي تشجع على جلب استثمارات نوعية، وتدفق المساعدات الدولية إلى بلد يعاني من عواقب أزمات بنيوية مستعصية، كادت تجهز على جميع مقومات الدولة!.

1- على الصعيد الأمني:

بالنسبة لإسرائيل، لا تضر الاتفاقية بأي شكل من الأشكال بالقدرات الدفاعية للجيش الإسرائيلي في البحر. فالتنازل عن مناطق في المنطقة الاقتصادية الخالصة ليس له أي تأثير على قدرات البحرية أو الاستخبارات التي تعمل من مسافة بعيدة.
علاوة على ذلك، قد يقلل الاتفاق من احتمالية وقوع حوادث صدام مباشر مع حزب الله، الذي لن يغامر في الإضرار بفرص إنتاج الغاز في صيدا قانا!.

هذا لا يمنع احتمال المواجهة في مواقع أخرى، إذا أخذنا بعين الاعتبار تزايد ثقة الحزب بنفسه بسبب ما يعتقد أنه ضعف إسرائيلي هو ما سمح بحصول الاتفاق؛ إضافة إلى ما يتطلبه التزامه تجاه مصالح إيران وسياساتها سيطرتها الإقليمية!.

2- على مستوى العلاقات الاستراتيجية بين لبنان وإسرائيل:

على الرغم من جهود السلطة اللبنانية لمنع أي مؤشر لبناء علاقات تطبيع، يعكس الاتفاق تغييراً جوهرياً في العلاقات بين الدولتين، قد يُضعف على المدى المتوسط ادعاءات الحزب بأن إسرائيل كيان غير شرعي، ولا ينبغي الاعتراف به!.

على صعيد مكانة حزب الله، قد يمثل الاتفاق على المدى الطويل بداية تغير ما في وظيفة الحزب تجاه إيران، ويخلق فجوة بين رؤية الحزب الثابتة وبين تقلبات السياسات الإيرانية؛ التي تسعى في النهاية لتحسين شروط علاقات ومصالح مشتركة مع أهداف وأدوات مشروع السيطرة الإقليمية للولايات المتحدة الأمريكية!.

شخصياً، بغض النظر عن حيثيات الترسيم، وبنود الاتفاق – التي تُعطي إسرائيل اليد العليا، خاصة في اشتراط بدء التنقيب في الجزء اللبناني من حقل قانا على حصول اتفاق بين إسرائيل والشركة المنقبة، وتعكس بالتالي ميل موازين القوى لصالح محور إسرائيل والولايات المتحدة – أعتقد أن صفقة ترسيم الحدود البحرية، في هذا الظرف الكارثي اللبناني، يعكس حلاً وسطاً بين الطرفين ويخلق وضعاً يربح فيه الجميع اقتصادياً وسياسياً، ويُعد إنجازه علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين دولتين في حالة حرب طويلة، ويخدم مصالح كل منهما الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، خاصة بالنسبة للبنان، الذي استخدمته جميع القوى المتصارعة، الإقليمية الدولية، كساحة لتوصيل رسائل!.

بالنسبة لإسرائيل، على أية حال، من الواضح أن مزايا الاتفاق تتفوق على العيوب!.


[1]– كما تميز مسار التطبيع بين النظام السعودي و إسرائيل عن المسارات الأخرى، فإنه ولأسباب تتعلق بطبيعة الشراكة الإيروأمريكية ، من الطبيعي ألا تأخذ علاقات التطبيع مع النظام الايراني وأطراف المقاومة، الفلسطينية واللبنانية والسورية، نفس الأشكال التي اتخذتها مع أنظمة مصر والأردن والسلطة الفلسطينية؛ وفي هذه التقية مصلحة مشتركة، نظراً لحاجة الجميع لستر حقيقة العلاقات والمصالح المشتركة، ووضعها في حالة صراع، كأحد وسائل تضليل شعوب المنطقة، وتفتيت صفوفها، و تعزيز بالتالي أدوات السيطرة والنهب التشاركي الإقليمي.

[2]– قد تكون القصة غير المُعلنة هي التي رواها الدكتور حارث سليمان في محاضرته الشاملة والعميقة حول لبنان الفراغ، والاستحقاقات على موقع Massar IDM.org، الذي يُدير حواراته ببراعة الدكتور ميشيل سطوف والأستاذ عماد الظواهرة، يوم الأحد، 6 تشرين الثاني 2022.

عملية الترسيم التي جرت في لبنان لم تكن عملية تقنية، وليست فقط ذات أبعاد اقتصادية. هي لم تكن أصلاً عملية ترسيم بين لبنان وإسرائيل، وهذه معلومات، وليست تحليل أو تكهنات!.

الصفقة التي أُنجزت حول كاريش، جرت بين الإسرائيليين والإيرانيين، عملية المفاوضات جرت على طاولة موازية لطاولة فيينا، حيث تقوم مفاوضات حول قضية الطاقة، وقد جرت صفقة المقايضة بغض النظر عن رفع إيران لصادراتها النفطية والبترولية من 400 ألف برميل، وصلت في تموز إلى 1800 مليون ثمانمائة ألف.

تواطؤ وغض نظر أمريكي عن ارتفاع صادرات إيران، مقابل كاريش، وهذه الصفقة أُبرمت، وأصبحت حقيقة بالترافق مع إبحار السفينة إينرجي من سنغافورا إلى كاريش/ساحل البحر المتوسط.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني