
حول حوار الشعب.. في قصر الشعب
لم يخطر على بال السوريين يوماً أن يكون قصر الشعب للشعب في مزرعة الأسد، حيث كان مجرد الاقتراب منه يشكل خطراً على حياة الإنسان، ويمثل مركز القيادة في جمهورية الخوف والترهيب والإرهاب والموت المنتشر في أرجاء سوريا طوال الأربعة وخمسين عاماً الماضية. كان القرار الفعلي يتخذ في ذلك القصر، وكل مؤسسات ومفاصل السلطة كانت مجرد أدوات يتم تحريكها من قبل الديكتاتور، الذي غالباً ما كان يتجنب إصدار الأوامر بنفسه، بل عبر مدير مكتبه وبالتلفون.
ويُروى عن بعض رجالات حكم الأسدين أنه عندما يتم استدعاء أحدهم إلى قصر الشعب، يشعر بالرهبة والريبة، إذ أنه قد لا يعود إلى بيته بعدها. ولم يخالف الأسدان (المقبور والمخلوع) أهم قواعد الاستبداد، وهي أن الضعيف عملياً، والذي لا يملك الشرعية ولا الحاضنة الشعبية، لا يملك إلا البطش والترهيب، وهما مصدرا الشرعية الوحيدان للاستمرار في السلطة.
أثناء حضورنا لمؤتمر الحوار الوطني في قصر الشعب بدمشق، ومنذ أول البوابات، لم نشعر بأي خوف، بل غمرتنا السعادة الممزوجة بالقلق من أعباء التكليف بتمثيل أهلنا السوريين، والأمل في إعمار ما دمرته عقود حكم الأسد في البشر قبل الحجر. وكان الدخول إلى القصر عادياً جداً، دون أي إفراط في الإجراءات الأمنية الاحترازية، ما يشعرك فوراً بأنك لست عدواً أو متهماً.
شعرنا أثناء دخولنا إلى القاعة بانتظار السيد رئيس الجمهورية لافتتاح أعمال المؤتمر بأن الأجواء مريحة جداً، ولا رهبة من انتشار عناصر الحرس، ولا صفوف أولى محجوزة لكبار المسؤولين. كل فرد أو مجموعة اختارت المكان الذي تجلس فيه دون إملاءات أو توجيهات. ثم رحب ميسر المؤتمر بوصول السيد الرئيس والوزير الشيباني، ودخلا بشكل هادئ وعادي دون مقدمات أو أبيات شعر نارية، ودون التمثيل بالتصفيق المديد والهتافات بالروح والدم. كان شيئاً مختلفاً لم نعهده يجري أمامنا. الرئيس هو الموظف الأول في الدولة، دخل بكل تواضع وهيبة وأخذ مكانه. بعض عقليات الحقبة الماضية حاولت الهتاف، ولم يتجاوب معها أحد، وقمعها بعض الحاضرين بالقول: “بطلونا هالعادة السيئة”. وكان الرئيس والوزير معه موافقان على نبذ ثقافة العهد البائد.
كانت خطورة وأعباء المرحلة التي تمر بها سوريا تلقي بظلالها على الجميع، وكان العمل المطلوب إنجازه أهم من كل المظاهر السلطانية الأخرى. صعد الرئيس إلى المنصة وألقى كلمة موجزة ومعبرة، مؤكداً فيها على الثوابت الرئيسية لسوريا الجديدة، ومتمنياً التوفيق للمؤتمرين. تلاه السيد الوزير أيضاً، معدداً ما تم إنجازه على الصعيد الخارجي في تلك الفترة القصيرة بعد التحرير. وبالطبع، غابت كل مظاهر العهد السابق من التطبيل والتمجيد والعصمة للرئيس، ما ولد انطباعاً عاماً لدى الحضور بأننا في سوريا المستقبل، حيث لا مكان إلا للعمل والجدية المفعمة بجو الحرية الكامل، وانتهاء عهود التصفيق والدبكات وانتفاخ الأوداج من شدة الهتافات.
عد تقسيم المؤتمرين على المحاور الستة المقرر النقاش حولها، واختيار كل عضو الورشة التي يجيد تقديم آرائه وخبراته وتوصياته فيها، كانت السعادة والمسؤولية بادية على الجميع. وكان اللون السوري الواحد يغطي كل ألوان قوس قزح السوري المعروف. كانت المواضيع المطروحة للحوار تهم الوطن السوري والمواطن السوري، ويقوم بذلك سوريون دون أجندات حزبية أو عقائدية أو مناطقية أو دينية أو طائفية أو مستوحاة من خارج الحدود.
كانت الحوارات جادة، وتمتع المشاركون بكل جرأة في طرح رؤاهم وأفكارهم وتصوراتهم في جو لم نعتده. كانت كل كلمة ينطق بها المشارك يحس بأعبائها لأنها تؤسس لمستقبل بلاده. لم يتم قمع أي فكرة أو رأي، ولم تحصل توترات أو مشادات بين أصحاب الرؤى المتعارضة. كان السوريون يتكلمون مع بعضهم بكل شفافية بعد قرن ونيف من المؤتمر السوري الأول في أعقاب انهيار الدولة العثمانية ومخاض تشكل سوريا الحديثة.
كانت كثير من الأفكار تُطرح، ويعلم صاحبها أنها لا تتوائم مع توجهات العهد الجديد، ومن قلب قصر الشعب، ولا يخشى لومة لائم. وكان الحرص على طرحها ليس لمعارضة العهد، بل لأن صاحبها يؤمن بصوابيتها وملاءمتها للمستقبل السوري، وحرصاً منه على مستقبل أولاده وبلاده.
كان كل واحد فينا يشعر بأنه حر ويبني بلده بحرية ومسؤولية. كانت تجربة موفقة ومميزة، ويجب أن تستمر لصراع أو تنافس السوريين بالألسنة والعقول، هدفهم مصلحة الوطن، وأدواتهم وذخيرتهم خبراتهم وتجاربهم وآمالهم. لن يكون في المستقبل، إن شاء الله، إلا هذا النوع من التنافس، ولن تكون سيوف الجلادين فوق الرقاب، ولا مصير عدرا وصيدنايا هو مكان صاحب الرأي المخالف. ولن نتحاور بالبندقية والمدفع، ولن نتقوقع ضمن هوياتنا الأهلية، وسنؤسس لأبنائنا وطناً جميلاً يحفظ الكرامة والحرية، وتكون حقوق الإنسان أهم ما يميزه.
كان انعقاد المؤتمر ضرورة وطنية ملحة، ومع كل السرعة التي ميزت انعقاده، إلا أن ذلك أفضل من عدم انعقاده. تعاني سوريا من عقوبات هائلة فرضت على النظام المخلوع، وبالطبع أدت تلك العقوبات لإضعاف بنية النظام وتعفنه، إلا أنها ما زالت تكبل واقع وطموحات السوريين، وتشل أيدي القيادة الجديدة عن تقديم حتى الإجراءات الإسعافية التي تؤمن حداً أدنى من الخدمات وتحسن الحالة المعيشية والاقتصادية، وتكبل الأشقاء العرب عن تقديم أي جهد حقيقي للنهوض بسوريا.
وكانت الشروط الأوروبية والأممية وحتى الأمريكية المعلنة لرفع العقوبات هي تحقيق روح القرار الدولي 2254 بعد سقوط نصوصه عملياً، وهو الدخول في عملية سياسية انتقالية بقيادة سورية تكون بديلاً عن هيئة الحكم الانتقالي المنصوص عنها في القرار الدولي البائد، وتشكل أساساً لشرعية النظام السوري الجديد بمشاركة كل أطياف الشعب السوري.
وقد راقب المجهر الدولي قبولاً وتأييداً شعبياً مقبولاً لما جرى في الأشهر الثلاثة الماضية، وخاصة بتنصيب الرئيس الشرعي رئيساً للجمهورية، وتوجهات العهد الجديد بإصراره على تشكيل جيش وطني واحد وقوى أمنية واحدة، وعدم القبول بأي وجود مهما كان حجمه لميليشيا خارج نطاق الدولة.
وكان انعقاد مؤتمر النصر العسكري، والذي صدر عنه قرارات في غاية الأهمية، تجسد الشرعية الثورية للمنتصرين في ساحة المعركة، وهي شرعية موجودة ومعترف بها دولياً إلى حد ما، ولكن ما ينقصها هو شرعية مدنية ليست من حواضن المنتصرين عسكرياً فقط، بل من كل السوريين (عدا أنصار النظام المخلوع)، بمعنى كل من لم يشارك عملياً بالثورة ولكنه مطلوب منه أن يشارك في بناء سوريا الدولة.
انتهت الثورة عملياً بسقوط النظام، وتم (ويتم) اجتثاثه من جذوره، والثورة المقبلة ليست عملية هدم بل بناء لكل مؤسسات الدولة، وتضميد الجراح التي خلفها النظام السابق في النسيج المجتمعي السوري، وتلك تحتاج لعقلية البناء وليس الهدم.
دعوة نخب سورية وازنة وتمثل كل السكان في الجغرافيا السورية، ودون الاعتماد على الهويات الفرعية، كانت حدثاً مهماً في بلورة شرعية مدنية أشبه ما تكون بالبرلمان الانتقالي ضمن الحدود المتاحة لاختيار الأعضاء، وهي التي أعطت الرئيس والعملية السياسية الجارية الشرعية أو الغطاء المدني الذي كان مفقوداً، ولا تنوب عنه حالات الفرح والتأييد للتغيير التي شاهدناها جميعاً في مدننا أو عبر المنصات الإعلامية.
إن تلك الشرعية المدنية سيستخدمها العهد الجديد لتأكيد أحقيته في قيادة المرحلة الانتقالية، والتي قد تمتد لخمس سنوات قادمة، وتعزز من قوة قرارات الرئيس التي فوضه بها مؤتمر النصر العسكري، حيث يستعد الرئيس للإقدام على قرارات مصيرية مثل تشكيل حكومة انتقالية واسعة الطيف التمثيلي، وإصدار إعلان دستوري مؤقت، وتشكيل برلمان تشريعي مؤقت، ولجنة لكتابة الدستور.
وهذا بالإضافة إلى بعده الداخلي الأهم، إلا أنه مهم أيضاً للخارج الذي طلب ذلك علناً واعتبره شرطاً لرفع العقوبات. إن ما ورد في توصيات المؤتمر من ترسيخ لمبدأ التعايش السلمي، واعتماد الحوار كحل وحيد لمناقشة الاختلافات، وتعزيز قيم الحرية وحقوق الإنسان كقيم عليا في الدولة والمجتمع، ورفض التمييز على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي، والتأكيد على وحدة السوريين والأراضي السورية، وحصر العنف الشرعي بيد الدولة، هي مبادئ فوق دستورية أو من ثوابت العقد الاجتماعي الجديد.
وليس هناك من شك بأن سقف الطموح أعلى بكثير، لكن ظروفاً محلية وإقليمية ودولية يجب أخذها بعين الاعتبار، ولا شك أن خارطة الطريق التي أرساها مؤتمر الحوار سوف تقود في النهاية إلى بناء أسس الدولة والمجتمع السوريين. وبالتأكيد، فإن الحوار بين السوريين قد بدأ وهو مستمر ولم ينتهِ باختتام المؤتمر، فالحوار عمل مستدام، وسوريا الجديدة تحتاج إلى تضافر جهود كل السوريين الأوفياء لبلدهم.