fbpx

حول أسباب وأهداف التصعيد الروسي في إدلب

0 4٬789

تُعتبر روسيا وإيران عدوين جيوسياسيين تاريخياً، لكنّ مصالحهما تتقاطعان ضِدّ عدو قوي، حيث حدث ذلك ضد الإمبراطوريتان البريطانية والعثمانية ومؤخراً ضد الإمبراطورية الأمريكية وهو السبب الرئيسي لتعاونهما في بعض الملفات كالملف السوري رغم التباينات الاستراتيجية في أهدافهما، فلكلٍ منهما مشروع مختلف بل متناقض مع المشروع الآخر، وبقي هذا التناقض في سوريا ضمن حدود تكتيكية لأنّ الغول الذي يخافان منه ويتحالفان ضده موجود في كل تفصيل من تفصيلات الملف السوري والمنطقة كلها.

لم يُؤثّر التنافس بين روسيا وإيران وتسابقهما نحو افتراس أكبر قدر من الضحية السورية على الهدف المشترك لهما وهو إخراج الولايات المتحدة من سوريا وتالياً من المنطقة، حيث ترى إمبراطورية ولاية الفقيه نفسها (كونها بنت المنطقة) الأحقّ بالسيطرة على الشرق الأوسط وبناء إمبراطوريتها القومية المذهبية وتكريس قيادة الأمة الإسلامية من قِبل الولي الفقيه كخليفة للمسلمين في العالم واخراج كل الغرباء المنافسون المتمثلون في الغرب المسيحي الداعم للدولة اليهودية المصطنعة في المنطقة.

في حين ترى روسيا القيصرية البوتينية أنها القوة الأوروآسيوية الوحيدة التي يجب أن تُسيطر على المنطقة وتثأر للهزيمة المُذلّة لسلفها الاتحاد السوفييتي بالضربة القاضية وبالقوة الناعمة أيضاً، واعتقد القيصر الروسي أنه أعدّ العُدّة لإعادة أمجاد القياصرة وبدأ مشروعه الكبير بغزوه لأوكرانيا في أواخر شباط 2022 ولم يَدرِ أنّ فخاً أُعِدّ له أو أنه نَطح جدار الغرب بقرون من عجين.

نفس الخطأ وقعت به إمبراطورية الولي الفقيه عندما حاولت هزيمة الغرب بالنقاط فوجهت ضربة قاصمة للدولة العبرية في 7 أكتوبر ولم تُدرك جيداً أيضاً أنها سترتد عليها وتكون ضربة قاضية لها.

لذلك تَعتبر كلٍ من روسيا وإيران معركتهما مع الغرب مصيرية في سوريا ولن يُسلّما بأيّ هزيمة دون حرب، ولن يَخرجا من سوريا إلا بالإرغام العنفي أو الناعم، لأنّ هزيمة المشروعين التوسعيين ستبدأ فعلياً من سوريا، حيث بإمكان إمبراطورية ولاية الفقيه لعق جراحها في غزة ولبنان ومحاولة بناء ذراعيها المكسورين لاحقاً والتبجّح بانتصارات زائفة يتمّ حقن القطيع بها ولكن الوجود الإيراني في سوريا سيعني أنّ الإمبراطورية بخير وتُطلّ على المتوسط وتُحيط بإسرائيل والأردن من الشمال وتُهدّد كل ممرات الطاقة إلى أوربا وتكون حجر عثرة في وجه طريق البهارات الهندي الذي ستكون من نتائجه الطبيعية شرق أوسط عربي/عبري بدون فرس وروس وترك.

كما أنّ الخروج الروسي من سوريا سيظهر حقيقة زيف مشاريع وسياسات بوتين الكارثية والتي استجرها على بلاده تحت شعارات عودة روسيا الإمبراطورية إلى سُدّة القرار الدولي.

ولمعرفة أسباب وحيثيات التصعيد الروسي الأخير في إدلب لابد من الرجوع قليلاً للوراء.

حيث شكّل الدخول العسكري الروسي أهمية كبيرة في الإستراتيجية الروسية في المنطقة وكان يُشكّل للرئيس الروسي حلماً قيصرياً تم تحقيقه، وبذلك التواجد والقاعدتين البحرية والجوية في سوريا وهما الوحيدتان لروسيا خارج محيطها الجغرافي يعني أنّ روسيا أصبحت قوة عظمى ونِداً قوياً للولايات المتحدة لمزاحمتها أو مشاركتها في القطبية العالمية وبذلك يعود مجد الاتحاد السوفييتي الذي هزمه الغرب.

ولعبت روسيا دور وسيط القوة في منطقة الشرق الأوسط عبر وجودها في سوريا وأدارت الصراعات بين كل الخصوم والأعداء مثل إيران وإسرائيل والعرب وتركيا والولايات المتحدة، وكان تَدخّلها يتمّ تحت عناوين براقة تُحقق سمعة جيدة لروسيا وهي محاربة الإرهاب، إضافةً لرأي بعض المراقبين أنّ امتلاك الروس للورقة السورية هو للتساوم بها مع الغرب حول الاحتلال الروسي لأجزاء من شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، لكل هذه الاسباب وغيرها لا تُفكّر روسيا بالانسحاب من سوريا لكي تحافظ على بعض المكاسب التي حققتها أو تنوي تحقيقها خاصةً أنها وقبل غزوها لأوكرانيا لم تتمكن من حسم الحرب السورية عسكرياً وتقديم حليفها بشار الأسد مُنتصراً أو أمراً واقعاً، ولم تُحقق أيّ منافع اقتصادية، وبقيت المعارضة السورية على الأرض ولم تتمكن من تعويم مسار أستانة على حساب مسار جنيف الدولي.

وتُدرك روسيا أنّ سوريا هي موطئ قدمها الوحيد في الشرق الأوسط وأنّ بشار الأسد هو الذي يُؤمن لها ذلك التواجد وأنّ سقوط الأسد قد يُؤدي لزوال ذلك الوجود.

وتدرك موسكو أنّ تركيا هي دولة محورية بحلف الناتو الذي يخوض حرباً معها بالوكالة في أوكرانيا، وأنّ موازين القوى التي أنتجت خطوط الهدنة في عام 2020 قد تَغيّرت في غير صالحها وأنّ قوات المعارضة السورية والأتراك لم تنس نقض روسيا لكل التفاهمات والتوافقات التي تَمّت حول مناطق خفض التصعيد خاصة منطقة خفض التصعيد الرابعة والتي تم التوصل لها في سوتشي 2018 والتي تضم مناطق واسعة من ريف إدلب الشرقي والجنوبي وريف حماة الشمالي وأجزاء من أرياف حلب الغربية والتي كانت خلف نقاط المراقبة التركية الـ 12 كمناطق آمنة للاجئين ريثما يتم الحل السياسي، وبسبب امتلاك الروس والميليشيا الإيرانية وقوات النظام لفائض من القوة، تم احتلال تلك المناطق وتهجير مليوني سوري ودفعهم للشريط الحدودي مع تركيا أو للداخل التركي أو الاتحاد الاوربي.

لذلك التصعيد الروسي الآن بقصف مناطق فارغة (مع مجزرة واحدة بمعمل لصناعة المفروشات قرب إدلب المدينة) من السكان لإرسال رسالة لتركيا أولاً ولحلفائها من الفصائل العسكرية السورية بعد رواج أحاديث كثيرة عن نية قوات المعارضة فتح معارك جديدة لتحرير أراضي واعادة السكان الأصليين النازحين إليها حيث توجد أسباب منطقية لاستعداد تركيا والفصائل السورية لفتح هكذا معركة طالما أنّ الوجود العسكري الروسي بأضعف حالاته، وأنّ الميليشيا الإيرانية وحزب الله تحديداً وهو العمود الفقري الداعم لميليشيا الأسد هو في حالة حرب ضروس وتتطلب منه سحب كل عتاده وعديده إلى جبهات في لبنان أو القلمون أو شرق سوريا أو جنوب سوريا، حيث لا تُمثّل خطوط التماس مع المعارضة أية أهمية له في هذه المرحلة.

كما أنّ الروس الآن يريدون بأقصى جهودهم عدم تغيير خطوط التماس وعدم تدهور العلاقة مع تركيا، ويأمل الروس في فوز الرئيس ترامب وإعادة الاتصالات بين موسكو وواشنطن لإنهاء الحرب في أوكرانيا واعطاء الأمريكان دوراً هاماً للروس في تقليم أظافر أو نزع الميليشيات الإيرانية في سوريا كإحدى الخدمات التي يَشنّ الإسرائيليون الحرب من أجلها.

لا أظنّ أنّ الروس سينجحون في مساعيهم عبر تلك الرسائل، فبضع طائرات في قاعدة حميميم لا تستطيع تغيير مسار وأهداف معركة إذا كان هناك قرار سياسي تركي بفتحها خاصةً أنها تَصبّ في أهداف الحرب الجارية الآن لطرد كل أشكال الميليشيات الإيرانية من سوريا ولبنان، خاصةً أنّ تصريحات الرئيس التركي أثناء عودته من رحلة خارجية كانت أمر عمليات بفتح معركة وينتظر ساعة الصفر، ولن يُفوّت تلك الفرصة التي انتظرها طويلاً، خاصةً أنّ تركيا لا تخشى روسيا، فقد كانت أول دولة تزود أوكرانيا بالسلاح عبر صفقة الدرون الشهيرة وأنها فعّلت اتفاقية مونرو وقطعت التواصل بين الأساطيل الروسية وقاعدتها الأمّ في البحر الأسود وأغلقت أيضاً المجال الجوي التركي في وجه الجهد العسكري الروسي بين سوريا وروسيا وبالعكس.

الامتعاض الروسي من الموقف التركي استبقته موسكو أيضاً بتسريبات عن طلبها من العراق وقف جهود الوساطة بين نظام الأسد والحكومة التركية، في الوقت الذي تتحدث تركيا عبر رئيسها ووزير خارجيتها عن استعدادها لتنفيذ كل ما يتطلبه الأمن القومي التركي في ظل قرب وقوع صدام حقيقي عسكري بين إسرائيل وإيران ستكون الساحة السورية أهمّ جبهاته، ولم يُخفِ الرئيس التركي ذلك بقوله إنّ احتمال دخول إسرائيلي إلى دمشق قوي وإنّ تهديد وحدة الأراضي السورية ستستغله قسد، وهو لن يسمح بذلك ولن يقبل أن يتمدد الإسرائيليون إلى الشمال السوري (وقد يقصد عبر قسد وليس بجنودهم) وإنه على كامل الاستعداد لمواجهة هذا الاحتمال المتوقع حدوثه قريباً.

لن تتمكن القوة الروسية المتآكلة من تغيير أو تأخير تَغيّر معادلات القوة في سوريا وقد لا تُغامر موسكو بفتح أبواب الجحيم عليها بعد سقوط كل التفاهمات السابقة، وهي من حذرت بوجود عسكري أوكراني في إدلب يرمي إلى استهداف الوجود العسكري الروسي على غرار ما حدث في أفريقيا لميليشيات فاغنر، لذلك لا أرى أنّ بمقدور موسكو عمله في حين تم فتح معارك تحرير في الشمال إلا محاولة التفاهم مُجدداً مع الأتراك عن مدى عُمق تلك العمليات وإبقاءها بعيدة عن قواعدها في حميميم وطرطوس.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني