حقوق الإنسان في ميزان القوة
حقوق الإنسان كلمتان جميلتان تتآزران وتشدان بعضهما بعضاً، فالحق مطلب العدالة، والإنسانية محور الحياة وقوامها عندما تتعاضد مع العدالة ليعيش الناس على سطح كوكبنا في أمان وسلام، ومنذ أن وعى الإنسان وجوده على هذه الأرض أعمل عقله كيف يمكنه استغلال مواردها لتطوير سبل عيشه؟ وتقاطعت المصالح حيناً، وتناقضت حيناً، وكلما زادت التناقضات ازداد الخلاف حدة، فلجأ بعضهم إلى استخدام القوة لتحقيق مصالحه على حساب الآخر، وتطورت أشكال العنف في المواجهات، وأدى بعضها إلى استمرار الحرب سنوات عديدة أنهكت الشعوب المتحاربة.
ومع انتشار العنف تراجع السلام، وتطورت تكنولوجيا طرق وأساليب صناعة أدوات الحرب، وتفاقمت نتائج النزاعات، ففكر بعض النشطاء والمفكرين والقادة بوضع أسس للحد من النزاع، وإشاعة روح التسامح والإخاء والسلام وتحقيق الأمن، ونشر العدالة في المجتمع، وكان للقادة دور كبير في وضع أسس الدعوة لمبادئ حقوق الإنسان، وأقدمها الذي وصلنا مكتوباً “قانون الملك حمورابي” الشهير 1750 ق. م، ثم تطورت الدعوة بأشكال متعددة عبر مسيرة الحضارة البشرية حتى وصلت إلى القرن العشرين. ومع تزاحم المصالح الدولية وتناقضها للتحكم بالأسواق العالمية، والسيطرة على الموارد الضخمة للشعوب، وتنافسها على تلك الثروات؛ تفاقمت حدّة الصراع لتنشب الحرب العالمية الأولى التي دمرت ما دمرت من موارد الدول والشعوب، ودعت نتائجها الدول إلى التفكير بالحد من الحروب فأنشات “عصبة الأمم” التي حملت في صياغة ميثاقها جنين إخفاقها وانحلالها لتعود شريعة الغاب إلى الوجود، ويزداد العنف حدة، وتتناقض مصالح الدول، ويُستَجَرُّ العالم لخوض الحرب العالمية الثانية التي أنهكت البشرية، وحصدت ملايين الأرواح والإصابات، ودمرت الطبيعة والمدن والأرياف. وبعد انتصار الحلفاء أُخمِدت حينها جمرة الحرب تحت رماد المصالح الدولية.
وبعد المعاناة الشديدة التي عاشتها الشعوب قبل الحرب وأثناءها وبعدها؛ ارتفع صوت الدعوة إلى السلام والأمن الدوليين رغبة في وقف العنف، وإتقاء الأجيال القادمة لمخاطر الحرب وويلاتها، وليسود الأمان في أرجاء كوكب الأرض اتفق المنتصرون بقوة السلاح على الدعوة لإنشاء “هيئة الأمم المتحدة”. وبعد مداولات شاركت فيها عقول مفكرة ومحبة ومؤمنة بالسلام تحت شعار “السلام والكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة” صدر ميثاق الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو في السادس والعشرين من شهر حزيران/يونيو 1945، معلنين في ديباجته “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جوّ من الحرية أفسح، وأن نأخذ على أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً بسلام وحسن جوار، وأن نضمّ قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي “. وترجمت مقاصدها ومبادئها في أولى مواد الميثاق لحفظ السلم والأمن الدوليين، وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، وحلّ المسائل الدولية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية..
وإذا ما فكرنا بما جاء في ديباجة الميثاق وشرح مقاصدها في أولى المواد لصفقنا فرحاً بما أنجز على الورق آملين أن نرى نتائجها تتحقق عملياً على الأرض، خاصة بعد أن تم توقيع وتصديق الدول الأطراف على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تلاه في العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، وبالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة.
وبعد سبعة وسبعين عاماً من عمر هيئة الأمم المتحدة فإن ما نراه، وما يحدث من عنف، ونزاعات مسلحة في أماكن عديدة، ومن تغوّل الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي باحتدام النزاعات في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، وآخرها في شرقي أوروبا ما يدفع للتساؤل عن صدق والتزام هذه الدول بما وقعت عليه وصدقته في ميثاق الأمم المتحدة، والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وعن جدّيتها في تحقيق مقاصد الأمم المتحدة فعلاً، أم أنها جعلت – بامتلاكها لأسباب القوة – من نفسها حَكَماً وشرطيّاً لحفظ مصالحها بدءاً من احتفاظها بحق العضوية الدائمة في مجلس الأمن، وبحق الاعتراض/الفيتو لتوقف أي قرار دولي يمكن أن يمس بمصالحها الذاتية غير عابئة بالسلام والأمن الدوليين، ومصالح وآمال الشعوب؛ ولتبقى حقوق الإنسان كلمات محبّرة في قراطيس الأمم المتحدة، وراية حَكَم غير عادل في وجه الدول والشعوب النامية المستضعفة، وليبقى العالم يعيش شرعة الغاب في مناطق عديدة، تثيرها وتديرها الدول الكبرى لتحقيق أهدافها ومصالحها أمام عيون الشعوب كافة، ولتذكرنا أن السلام والأمن الدوليين وحقوق الإنسان في ميزان القوة لا تساوي شيئاً، ولا تزال صفراً في المعادلة الدولية، إذ مازلنا نتذكر محو دولة وقيام كيان مصطنع في فلسطين، وحروب فيتنام، وكمبوديا، وكوريا، وأفغانستان، والاجتياح الأمريكي عسكرياً للعراق، وما يحدث في اليمن، وسوريا، وليبيا.. وآخرها الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا، وسن القوانين والقرارات التي تحارب بها الدول بحجج واهية للمحافظة على حقوق الإنسان وكرامته، أو أنها تدخل ضمن نطاق أمنها القومي، أو تعطيل القرارات الدولية باستخدام حق الفيتو، أو تركها تنام هانئة في أدرج مكاتب الأمم المتحدة. فأين حقوق الإنسان – التي لا تملك إلّا شرف كلمة الحق، والعدالة، والإنسانية – في ميزان هيمنة القوة للدول الكبرى على الأمم المتحدة؟.
إن حقوق الإنسان عند الدول الكبرى وقواها العظمى ليست إلّا ستارة تخفي – خلفها – ادعاءها تفعيل مبادئ حقوق الإنسان، وتحقيق السلام والأمن بذرائع شتّى لتتدخّل في شؤون الدول النامية خاصة وسرقة خيراتها.
إن ما يشهده عالمنا اليوم من توترات ونزاعات مسلحة، وارتفاع أصوات الكثير من المنظمات الدولية والإنسانية، والقوى المحبة للسلام يزيد التفاؤل بلجم القوة والحد من آثارها المدمرة، ونشر ثقافة حقوق الإنسان، وبالدعوة الموازية لتعديل ميثاق الأمم المتحدة للتأكيد على الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامته، وبحقوق متساوية بين الأمم كبيرها وصغيرها، وأخذها بمبدأ التسامح والإخاء، ونبذ الحروب والعنف الزائد عن الحد، والسعي لنزع الأسلحة الفتاكة والمدمرة للبشرية وعلى رأسها الأسلحة النووية والبيولوجية بشكل كامل، وهو الخطوة الأولى للسير في طريق تحقيق السلام والأمن الدوليين.