حروب رمادية، مطحنة خصوم، صندوق بريد، حقل رمي، هذا حال سورية اليوم.. ما هو الحل؟
من المسلمات التي لا يمكن الخلاف عليها أن المسؤول الأول والأخير عما آلت إليها سورية هو النظام السوري.
عندما استجمع السوريون قواهم وخرجوا مسلحين بحناجرهم وقبضاتهم ومحتمين بصدورهم العارية، وطالبوا ببعض من حرية وكرامة وبإصلاحات محدودة، واجههم النظام بالرصاص الحي منذ اليوم الأول، ولعل سورية هي البلد الوحيد الذي قدم الشهداء في المظاهرة الأولى في 18 آذار 2011.
سعى النظام لعسكرة الثورة ثم أسلمتها وسعى أيضاً لاستقدام تدخل أجنبي، و(كما كشف حسن نصر الله مؤخراً) فقد تم إنشاء غرفة عمليات بدمشق بإشراف قاسم سليماني قبل انطلاقة الثورة المباركة، وكان لديها الكوادر والخطط والأدوات فيما إذا وصلت الشرارة المتوقعة من المغرب العربي الثائر.
كان التدخل الإيراني الأمني والعسكري هو الأول وكان لنظام الملالي نشاط تبشيري لم ينقطع منذ وصول الخميني إلى السلطة، حيث كان نظام الأسد الأب حليفاً استراتيجياً لطهران، وجسراً للعبور إلى لبنان وتنفيذ الأجندة الإيرانية فيه وأهمها تأسيس حزب الله.
كان القرار الأمريكي بعدم التدخل عسكرياً هو الأهم في مسار الثورة السورية، فقد كانت الولايات المتحدة تصر على عدم إرسال قواتها إلى سورية لكنها كقوة عظمى وحيدة هي من كانت تتحكم بالمشهد، وقد تغاضى الرئيس أوباما عن خطوطه الحمر مراراً وتكراراً، ويرى بعضهم أن الاستراتيجية الأمريكية المتبعة في سورية هي استراتيجية طحن الخصوم واستنزافهم، وكان لها ما أرادت حيث تم التغاضي عن كمية ونوعية العنف الذي استخدمه النظام تجاه المدنيين أو الأفراد الثائرين المسلحين بالبنادق، واستخدام الشعارات الطائفية الاستفزازية تجاه جمهور الثورة (وغالبيته من السنّة) وما كان متوقعاً حدوث ردات فعل معاكسة، وغضت أمريكا أبصارها عن إطلاق النظام السوري لمئات الموقوفين الجهاديين السنة من سجن صيدنايا وإرسالهم إلى مناطق الثورة السورية، وخلال أقل من شهر تمكن بعضهم من إنشاء منظمات مسلحة بخطاب مختلف عن خطاب الثورة السورية المدني الديمقراطي، فتم تشكيل منظمة القاعدة وشبيهاتها، ثم لم يتأخر نوري المالكي، فأطلق سجناء القاعدة من سجون العراق عام 2013، وتم تشكيل داعش.
كانت سورية أشبه بالفخ الذي تم نصبه لكل الراغبين (بالجهاد) من مختلف دول العالم، وتم تنظيف تلك المجتمعات منهم بعد أن تم تأمين كل الظروف المناسبة لقدومهم، وكانوا بمواجهة خصومهم الجهاديين الشيعة، إلى أن تدخلت الولايات المتحدة بتحالف دولي لهزيمة تنظيم داعش عام 2014، وبعدها بسنة عندما أوشك نظام الاسد على السقوط وفشل الحرس الثوري الإيراني بحمايته تدخل الجيش الروسي لإنقاذ النظام والإجهاز عسكرياً على الثورة.
حدث التدخل العسكري التركي المباشر صيف 2016 ضد داعش، بعملية درع الفرات ثم تبعه تدخل ضد ما يسمى قوات سورية الديمقراطية (ذراع حزب العمال الكردستاني التركي في سورية) بعملية غصن الزيتون عام 2018، ثم عملية نبع السلام عام 2019.
في عام 2020 تم إرسال آلاف الجنود الأتراك إلى إدلب منعاً لاجتياحها من قبل قوات النظام وحلفائه، ولم تتغير خطوط وقف القتال منذ ذلك الحين، وكانت النتيجة تمركز أربعة جيوش إقليمية ودولية إضافة إلى الوجود الدائم والفاعل لسلاح الجو الإسرائيلي في السماء السورية.
اختلفت مصالح الدول بالطبع.. ولكن ما يميز ذلك التدخل أنه:
1- يحقق غايات استراتيجية عليا، فالولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب وفقاً لما تعلنه، إنها تدخلت لحماية أمنها القومي من تصاعد نفوذ الحركات الجهادية السنية التي تحمل أجندة دولية وهي لا ترغب بـ 11 سبتمبر جديد أو تهديد مصالحها الحيوية في المنطقة.
أما الروس فانهم يسعون لإعادة الاعتبار لهم كقوة عظمى شريكة في الأمن العالمي ورافعة استراتيجية لهم من سورية إلى الخليج العربي وأفريقيا، بينما الإيرانيون فمشروعهم الإمبراطوري المغلف بغلاف مذهبي معروف.
في حين أنني لا أرى أي مسوغ للتدخل التركي المباشر إلا حماية الأمن القومي التركي من تهديدات حزب العمال الكردستاني عبر سورية ومنعاً لتدفق المزيد من اللاجئين إلى أراضي تركيا، عبر إنشاء حزام أمني تركي بالتعاون مع قوى الثورة المحلية لتأمين منطقة آمنة لخمسة ملايين سوري هارب من جحيم النظام وإدارة المنطقة بشكل مقبول ريثما يتم الحل النهائي
2- تدخل القوى الدولية والإقليمية غير مكلف مادياً وبشرياً قياساً لتدخلات سابقة تمت.
اتفاق غير معلن على حصر التنافس والتساوم والصراع في الأرض السورية
يبدو أن كل الأطراف مرتاحة لذلك، بأن تجعل سورية أرض الحروب الرمادية بين إسرائيل وإيران، وبين إيران والولايات المتحدة، وبين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة ثانية، حيث يدعم كل فريق قوات متحاربة على الأرض، فيما تستخدم الولايات المتحدة قوات قسد كورقة ضغط على تركيا.
التساوم الروسي – التركي مفتوح على مصراعيه عبر الأرض السورية وبدماء سورية، حيث لا تجيد قوات الاحتلال الروسي غير توجيه رسائل دموية عندما يكون هناك اختلاف ما في إحدى الملفات الشائكة العالقة بينهما من ليبيا إلى أوكرانيا وأذربيجان.
وبما أن الغايات التي يحققها وجود القوى المختلفة على الأرض السورية يحقق غايات استراتيجية لها وغير مكلف بشرياً ومادياً، وهي بحاجة لحلبة مصارعة حرة أو فضاء لتنفيس كل احتقان بينها وبما أن الساحة السورية تؤمن أفضل وأسرع طريقة لإيصال الرسائل وباعتبار أن الارض السورية تمثل أرضية خصبة لحملات علاقات عامة، وبما أن سورية توفر مجالاً مثالياً لتجريب الأسلحة الجديدة واختبار فعاليتها وتدريب الكوادر العسكرية واختبار مدى نجاعة دفاعات العدو، فإنه ليس أي أحد من تلك الدول في عجلة من أمره في الوصول لحل ما للمسألة السورية.
ما هو الحل؟
إذا لم نتمكن من تسخين الورقة السورية بيد حاملها بحيث تحرق يده فلن يتخلى أحد عن أوراقه مجاناً والكل يعلم أن هذه الدول ليست جمعيات خيرية، وما علينا للوصول لذلك الى بتطبيق عدة سياسات عاجلة منها:
1- إعادة هيكلة لقيادة الثورة، بحيث تشابه منظمة التحرير الفلسطينية أو مجلس المقاومة الإيرانية (مجاهدو خلق)، وتبني خطاب مدني ديمقراطي جامع والتركيز على العمق العربي والتركي، وإنشاء أفضل العلاقات مع التحالف الغربي الذي تقوده أمريكا.
2- الإصرار على تطبيق القرارات الدولية ذات الشأن، التي ألزم بها المجتمع الدولي نفسه.
3- اعتبار أن الساحة الأولى التي يجب خوضها هي الساحة الحقوقية، إذ إن النظام وحلفه الصلب يتفوق علينا بكل الملفات إلا هذا الملف الذي ندخل المعركة فيه بخيار واحد هو النصر، فقد فاقت الوثائق التي تدين النظام حقوقياً بعشرات المرات الوثائق التي قدمت لمحاكمات نورمبرغ، ولدينا في جعبتنا ملف جاهز وموثق هو ملف صور سيزر، بحيث يمكن جر الولايات المتحدة كلها إلى جانب قضيتنا لأنها القوة العظمى التي دققت ووثقت ذلك الملف وأصدرت بموجب ذلك قانوناً للدولة الأمريكية ألزمت نفسها به.