حبٌّ في زمن العنف
دخلتِ القاعة، شعّ النّور، وقفت مستأذنة، أشار الدكتور إلى مكان، خطت كنسمة صيف، التقت العيون، اخترق قلبَه شعاعٌ أضاء جوانحه، خفق في صدرها، زغردت عصافير دنياه، دقّ بقوة فاحمرت وجنتاها، تفتحت ورود حديقته، حسدها الجوري على لونهما، أفسح لها قربه، حطّت كناراً، تنسّم عطر ياسمين، همست: شكراً، ذاب كسكر في ماء دافئ، تابع الدكتور الشرح، تكتكت الساعة، أذنه تسمع دون أن يعي، شاردة تتابع، دفئه يشع، حرارتها تنتشر، يحسّ بها، تشعر به، تمرّ الدقائق، عيون تلاحق حركات الدكتور، آذان تسمع ودماغ تعطّل عن الاستيعاب، أيقظتهما: نكمل في المحاضرة القادمة. حملت دفترها والكتاب، انطلقت كقطة أفزعها طفل شقي، مخدراً لم يبدِ حركة، عيناه تابعتاها حتى خرجت من الباب، استردّ ذاته، خرج مع الطلاب وخيالها ما زال ماثلاً أمامه.
أمضى الليل ساهراً، قضت ليلتها قلقة، كيف سألتقيها غداً، كيف سأواجهه، ماذا سأقول لها، ماذا سأسأله، غفا على الكنبة، سهت مستندة على يدها، استيقظ، صحت، اغتسلا، لبس ثيابه، ارتدت فستانها، انطلقا.
وصل الكلية، جلس في مكانه المعتاد، جاءت، أفسح لها، شكراً، عفواً، بدأت المحاضرة، تكررت مناجاة أمس، قرر أن يكلمها، قررت سؤاله، مرّ الوقت دهراً، غداً نكمل، نظر إليها، ابتسمت، أنا سعد، عاشت الأسماء، أنا سعاد، تشرّفت بك يا آنسة وخرجا. لم يتجرّأ أن يزيد، لم تقدر أن تسأله. وفي البيت تشخصها في المرآة، وقفت تكلّم مرآتها، تخيّلها تكلّمه، تخيّلته يحدثها، أقسم أن يعزمها على فنجان قهوة، صمّمت أن تكلّمه.
انتظرها أمام باب الكلية، وصلت، صباح الخير، صباح النور، تابعا الدخول دونما كلمة، جلسا في مكانيهما، تُرى هل تقبل دعوتي، ماذا سأقول له، تقضّى الوقت بطيئاً، حملت كتبها، نظرت إليه، استوحى منها قوة، نبض شريانه، بدت عليه الحيرة، تلعثمت الحروف على لسانه، ابتسمت، ماذا تقول؟
– هل تقبلين دعوتي؟
– علامَ؟
– على فنجان قهوة في بوفيه الكلية
– نعم، موافقة
جلسا متقابلين، في صدريهما زغلولان ينقران الضلوع، وعلى مبسميهما شعاع فرح، رشفا القهوة صامتين يحتاران كيف يبدأان الحديث، تشجّع، انفكت عقدة لسانه، سألها: كيف الدراسة؟
– جيدة، وأنتَ؟
– لا بأس، أنتِ من أين؟
– مهجّرة من مدينة حمص، وأنتَ؟
– من ريف دمشق، كفر سوسة
– تقيمين في المدينة الجامعية؟
– لا، مع أهلي في المجتهد
– وأنا مثلك
– أبي موجّه في وزارة التربية
– وأبي مساعد أول في الجيش
– أنا أول العنقود، وأنتَ؟
– الثاني، الأول أخت مخطوبة
تتالت الأيام، وتتالت جلساتهما في البوفيه أو تحت شجرة الكينا في حديقة الكلية. تناقشا في المنهاج، وتبادلا المعلومات، لم تنقطع لقاءاتهما، اقتربت امتحانات الفصل الأول، راجعا المحاضرات معاً، تحاورا في الإجابات، وفي آخر يوم أهداها وردة صبّرتها في دفترها.
مرّت أيام العطلة كلّ يوم شهراً، ترفعا في المواد جميعها، أثارا غيرة الزملاء. انقضى الفصل الثاني وهما يزدادان قرباً، منعه الخجل أن يصارحها، كبّلها الحياء أن تعبّر عن مشاعرها، انتهت الامتحانات، سألها: ما رأيك بفنجان قهوة؟
– مؤجّل، حبّذا أن نرتاح قليلاً في الحديقة
– كما ترين
– أشعر بضيق في صدري، لا أطيق الأمكنة المسقوفة
– لماذا؟ هل تشعرين بألم؟
– لا، منذ الصباح ومسحة تشاؤم تثقل صدري
وقفا تحت شجرة الكينا. قال: ستسافرين إلى حمص؟
– لا، حيّنا تدمّر كلياً، وأقاربي مهجّرون.
نظر في عينيها طويلاً ، ابتسمت، ماذا ترى فيهما؟
– أرى بحراً فسيحاً، ماؤه زلال، ركع، أمسك يدها ، تلمّسها، احتضنها بكلتا يديه، تشمّمها، قبّلها، وضعت يدها الأخرى على رأسه، تغلغلت أناملها في شعره، شدّته، وماذا،.؟
– بحر لا أستطيع العوم فيه، إني أغوص عميقاً، أغرق، أغرق، فهلّا انتشلتني؟ أوقفته، تحرّرت من بين شفتيه، رنّت في أذنها، أحبّك، أذوب.
– يا شقي، كم انتظرتُ أن تقولها، أن أسمعها، وجلجلت ضحكتهما في الفضاء، ثم تهادت تتماوج على وجنات الأوراق ومباسم الأزهار. ضمّها، أراحت رأسها على كتفه، دغدغ شعرها الناعم المعطر أنفه، قال: أحبّكِ، أعدها، أحبك.
سمعاها تئزّ من بعيد، كأنها تتجه نحونا، استلقيا، سقطت قربهما، علا صوت انفجار هزّ المكان وتصاعد غبار ودخان.