fbpx

حبل الكذب…

0 29

شاب وسيم، رأيته مراراً في مقصف الجامعة وردهاتها، وجهه ليس غريباً، متى التقينا، وأين؟… جلست قريباً منه، تابعت حركاته، كان منهمكاً ومنسجماً مع عمله، لا يلتفت لأحد، غارقاً فيه حتى أذنيه، يقرأ… ويسجل أفكاراً في ورقة… مضت ساعةٌ ونصف الساعة، أطبق كتابه، وطوى أوراقه، وقصد باب الخروج… تابعته عيناي… عند المدخل قابلته شابةٌ شقراءُ ممشوقةُ القوام.

– أهلاً راشيل… لم تتأخري.

أمسكت بيده ومضيا في الطريق. ما سمعته شجّعني على التعرّف إليه…

بعد يومين، شاهدته يجلس في المكان نفسه، اقتربت منه، حيّيته… ردّها بأدب جمّ، طلبت الجلوس فسمح بطيبة خاطر، وبلطف قلت:

– أنا حاييم من حيفا.

قال:

– وأنا محسن من حيفا أيضاً.

– أنت من طائفتي؟

ابتسم وقال:

– أنا عربي فلسطيني.

صفعتني إجابته… تقلّص جلدي… شعرت بوخز في صدري… خاب ظنّي. والبسمة على شفتيه قال:

– خاب ظنّك… افتكرتني يهوديّاً، أليس كذلك؟

– نعم، ولأُخرج نفسي من الحيرة، سألته:

– ماذا تعمل في لندن؟

– أُحضِّر الماجستير في القانون الدولي، وأنت؟

– ما زلت في السنة الأخيرة، وأنوي التخصص مثلك.

– إذن، كلانا يبحث عن هدف…

– ما هدفك؟

– أن أُلِمَّ بالتاريخ والقانون لأثبت، بالبرهان والدليل، عدم شرعية الاحتلال لفلسطين.

استثارني جوابه، فقلت:

– وأنا لأثبت شرعية عودتنا إلى أرض الأجداد.

ضحك ساخراً:

– أرض الأجداد؟!

– نعم، هذا ما وعدنا الربّ به.

– أيُّ ربٍّ هذا؟… أم بلفور؟

– بلفور وعدنا بأرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

– أتصدّق ذلك؟

– ولِمَ لا؟

– وأين هؤلاء الذين يشاطرونكم البلاد، والذين تشرّدوا لاجئين، أليسوا شعباً؟

– لست أدري… هكذا علّمونا.

– وماذا علّموكم؟

– قالوا: أنتم أغراب، ويجب طردكم والتخلص منكم.

– ولهذا تقوم حكومتكم بإبادة جماعية لأهل غزة الفلسطينيين، وتشرّد اللبنانيين؟

– حكومتنا تردّ الاعتداء… من حقنا الدفاع عن أنفسنا.

– ومن حقكم أن تبيدوا شعباً احتللتم أرضه بالقوة؟

– إنها أرضنا الموعودة، وعلينا تطهيرها.

– أنتم تزوّرون التاريخ، وتقتلون حتى الأبرياء… لِمَ لا تسأل العارفين الصادقين من حاخاماتكم؟

– العارفون يؤكدون أن هذه الأرض لنا.

– هؤلاء حاخامات صهاينة، وهم قتلة وسفاحون.

جاءت راشيل… ربّتت على كتفه وجلست.

قال:

– هذه راشيل من تل أبيب… حبيبتي وخطيبتي. وهذا حاييم من حيفا.

ابتسمتْ وسألتني:

– أنت منهم أم منّا؟

– ماذا تقصدين؟

– أنت صهيوني تهوى القتل، أم يهودي يحب السلام؟

استفزني سؤالها، فقلت:

– أنا مع دولة يهودية…

– أفهم… أنت مع تهويد الدولة وطرد الفلسطينيين؟

– نعم…

احمرّ وجهها وقالت بحدّة:

– اليهود الحقيقيون لا يؤمنون بالقتل، ولا بدولة صهيونية تقتل وتشرّد الناس…

– ألستِ يهودية؟

– بلى، أنا يهودية حقيقية، لست صهيونية، ولست مع دولة الإجرام والمجرمين…

– رويدكِ، ألم تقرئي تاريخنا؟

– بلى، قرأته، اطّلعت عليه، وعرفت تزوير الحقائق… ولم ينطلِ عليّ الإعلام الكاذب…

– أنتِ تظلمين نفسك وغيرك…

– أظلمها إن صدّقت ساستك وحاخاماتك المتطرفين…

– أراكِ لم تطّلعي جيداً على التاريخ؟

– انتبه… أنا أعرف ما لا تعرفه عن تزوير التاريخ، وأعرف كيف نشأت دولتكم الصهيونية، وأعرف ظروف نشأتها، ومن ساعد على قيامها.

ناولَتني كتاباً وقالت:

– اقرأ حقيقة بريطانيا الاستعمارية، ولماذا وعدكم بلفور بدولة على أرض فلسطين…

وقفت وقالت لمحسن:

– هيّا… قد نتأخر…

وغادرا.

*****

دقّت راشيل إسفيناً في قناعاتي قبل مغادرتهما… قرأتُ الكتاب، وغيره وغيره… سلسلة من الحقائق تبيّنت لي… اهتزت قناعاتي، تخلخل أساسها، تقلقلت حجارتها… بحثتُ عن الحقيقة… وازنتُ بين ما لقّنونا إيّاه في المدرسة والجامعة، وما قرأته… أمسكتُ رأس خيط الزيف… وضعتُ قدمي على أول الطريق… اشتقتُ إلى رؤية راشيل ومحسن…

دخلتُ المقصف… رأيتهما يجلسان في مكانهما المعتاد… اقتربتُ منهما، فابتسما:

– أهلاً… اجلس يا صهيوني، قالت راشيل.

– أتسخرين؟

– لا… ألستَ صهيونيّاً؟

تردّدتُ ثم قلت:

– بل نصفه…

نكزتني بسبابتها في كتفي وقالت:

– بدأتَ تصحو يا صاحبي…

– لا أنكر… لقد نخر سوس الحقيقة منطقَ ما طُبِّعتُ عليه…

ابتسم محسن وقال:

– جميل أن تتعرّف إلى الحقيقة…

ثم سألني:

– أين وُلدتَ؟

– في حيفا.

– وأبواك؟

– في بولندا.

– وجدّاك؟

– أيضاً في بولندا.

– وكيف قدِموا إلى فلسطين؟

– مهاجرين كغيرهم.

– متى؟

– كما ذكروا، في 1948.

قالت راشيل:

– إذن، أنتم بولنديون… اغتصبتم ما ليس لكم… سكنتم في بيت لم تبنوه… احتللتموه كما احتلت الصهيونية فلسطين…؟

– أنتِ تصدّقين رواية محسن؟

– أيها الصهيوني الصغير، أنا اطّلعتُ على التاريخ… عرفتُ الحقائق التي كتموها عنكم… أنا أصدّق عقلي…

– لعب بعقلك هذا العربي؟

– انتبه… أنا أعرف نفسي… قناعاتي بنيتها على حقائق لا تقبل الشك… الحب لا يعرف ديناً ولا ملّة… إنّه لا يعرف إلّا الإنسانية، بعيداً عن الأحقاد… راجع نفسك…

غادرا وتركاني في حيرةٍ أجترّ أفكاري…

*****

زرتُ مكتبة الجامعة… عشراتُ كتب التاريخ تكذّب ما غُرس في أذهاننا… بدأتِ الحقيقة تكشف لي عن وجهها… فكّرتُ بكل ما مارسوه علينا من كذب وتزوير… احترمتُ رأي محسن وراشيل وحبّهما… لقد سبقاني… قرّرتُ اللحاق بهما… عزمتُ على الجهر بالحقيقة… خاطرتُ… كتبتُ مقالاً مطوّلاً… نشرته في صحيفة الطلبة بالجامعة… أثار زوبعة…

اتُّهمتُ بمعاداة السامية…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني