fbpx

قصة قصيرة بعنوان حافية القدمين للأديبة عبير عزاوي

0 520

أطلت برأس مثلث الشكل وعينين واسعتين بلون السماء وقرنين صغيرين يرتعشان مع كل حركة ..القطة التي تزين مقدمة جوربيها الداكنين تضعمها أمها في قدميها كل صباح ..كانت تحبهما ولا ترضى أن ترتدي غيرهما مهما حاولت أمها في النقاش العقيم المتكرر كل صباح حتى استسلمت الأم أخيراً ..ولم تعد تضيع وقتها في الكلام بلا فائدة فالوقت الضيق يمنعها من المجادلة وانتظار الجمل المكسرة والكلمات المقطعة الأحرف ناقصة المعنى  التي تتفوه بها طفلتها وهي تمسك أطراف قدميها بيديها الاثنتين متشبثة بمقدمتي الجوربين  …الأم تختصر الأمر دائماً  فوراءها نهار عمل طويل تبدؤه بالجري وراء سيارات النقل الصغيرة التي تقلها من البلدة الغافية غرب دمشق والتي  آوتها بعد نزوحها من قريتها الصغيرة المتكورة في الشمال إلى مقر عملها في شارع بغداد وسط دمشق …

تحرر الفتاة الجوربين ذوي رأس القطة من قبضة يديها ثم تنهض بنشاط معلنة انتصارها ..تقف على كعبيها ثم تمشي فيتحرك رأسا القطتين  يميناً ويساراً  مع مشطي قدميها .   تغرق في موجة من الضحك ..تشاركها فيه معلمتها في معهد التنمية الفكرية الخاصة بالمصابين بنقص في النمو العقلي و قصور في الإدراك ..علة ولادية أورثتها إياها اعتلال صحة امها حين كانت حاملاً بها و تهرب متعثرة  من مكان إلى آخر تحت وطأة القصف العنيف لقريتها اللائذة ببساتين الزيتون .. قبل ان يستقر بها الهرب في تلك البلدة منسية على أطراف دمشق ..

قفزت ذكرى الجوربين أمامها وهي تقف جوار أمها  أمام محل لبيع الجوارب والمناطيف الشتوية المتنوعة الأشكال والالوان

أشارت الصغيرة  لأمها الى جورب قطني بلون داكن تزين مقدمته قطة براس كبير وعينين بلون السماء  يشبه كثيراً جوربها لكن برأس قط أكبر …تراقصت الأسعار  امام ناظري الأم فجرّت الطفلة من يدها لتقف امام محل الألعاب المجاور في محاولة لإلهائها عن الجورب المنشود …

لفحة هواء لاسعة من ريح حلزونية حملت معها أوراق الاشجار التي لاتزال تتساقط رغم اقتراب كانون من نهايته   ….تحول الهواء إلى برودة تنبئ بشتاء قاس … هبط الظلام فجأة وغرقت الشوارع بعتمة مرّة اعتادها الناس مع الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي … .. خطوات الصغيرة تثقل وهي تجر نفسها بعكس اتجاه مسير والدتها ..فما كان من الأم إلا أن أسرعت في مشيها واندلقت في شارع ضيق ينتهي بشارع أوسع تتدلى من أعلاه أشرطة كهربائية بمصابيح لاحصر لها ….

الأضواء المتلالئة على طول هذا الشارع  والشوارع الأخرى المؤدية إلى ساحة العباسيين أضواء الاحتفالات بالأعياد المجيدة تجعل من دمشق جوهرة مسحورة بالضوء..  تتقدم خطواتهما ببطء لذيذ … الأم وصغيرتها  المذهولتان  بالاضواء تتحرران في مشيتهما تحت نعمة الضوء الساطع ..  .. يد الطفلة  لاتزال تحاول الإفلات من كف الأم والعودة إلى الوراء إلى محل الجوارب حيث بقي نظرها وقلبها معلقين…   غاصتا  في الجموع المحتشدة أمام شاشة عملاقة ..كانتا تغرقان في خضم دافىء من الأجساد والألوان  والروائح …..الآلاف  حضروا للاحتفال  بعيد الميلاد ..تبدو روائحهم مختلطة بحيادية غير مبالية بالبرد او لسعات الهواء ..  ….و للحظة خاطفة  جذب العالم المضيء الصغيرة ذات الأعوام الثمانية …مدت يدها لتمسك بالأضواء البعيدة ..لكنها أعادتها بهدوء ..فعالم جوربها المحبوب تشدها بعنف أكبر … نظرت إلى أمها  صرخت بغضب مثل حيوان مجروح ..ثم أفلتت يدها من يد أمها.. ابتعدت قليلاً .. وبسرعة غابت في الحشد الهائل  …وقفت على جزيرة الشارع المرتفعة التي تفصل بين طريقي الذهاب والإياب ..خلعت حذاءها وجوربيها القديمين …وانطلقت تجري بقدمين حافيتين …دارت الأم حول نفسها عدة دورات  ببحث محموم ….تدور حولها الوجوه  والأضواء والشاشة العملاقة ..ثم ترنحت وهوت على الأرض مغمضة العينين ..شعرت بملمس الزيتون على وجهها ورأت نفسها في قريتها البعيدة قبل أن تصير ركاماً وشعرت أنها في فراشها الوثير الدافئ غارقة بظلمة كانون الدبقة الشفيفة  …فتحت عينيها أصوات طائرات تحطم رأسها مع تحطيم قريتها للمرة الألف …وصوت في رأسها يهمهم :  لم كل هذا الجنون ؟؟!!

..أغمضت عينيها  من جديد  ورأت نفسها تقف مع طفلتها في محل الجوارب والطفلة ترتدي ذاك الجورب وتتحدث بجمل تامة الألفاظ والمعنى  ….

أغمضت عينيها الغارقتين بدمع أسود ….والأضواء تتلألأ فوق رأسها مختلطة بالناس المتحلقين حولها بدائرة غبية وعيونهم الخالية من اي تعبير تتناسل كفطر مسموم …..

  صوت ملائكي.  ينساب من بعيد ..(على الأرض السلام …وفي الناس المسرة ) …

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني