fbpx

ثلاثة ملفات تُسهم في تأزيم العلاقة ببن تركيا والثورة السورية

0 5٬386

ثلاثة ملفات هامة وحساسة تعتري سبل العلاقات الصحيحة بين تركيا والثورة السورية وهي:

1- ملف اللجوء السوري في تركيا

بعد الطفرة الاقتصادية التي عاشتها تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، بحيث ارتفع مستوى معيشة المواطن وازدهرت الحياة الاقتصادية، وكان حينها التأييد الشعبي للحكومات التي توالت على السلطة اعتبارا من 2002 مُطلقاً، وكان نجاحها الاقتصادي وبعض الإجراءات التي اتخذت للحد من تعسف القوانين العلمانية، وبدء ممارسة لعملية ديمقراطية وليدة وناجحة، كل ذلك أتاح ابتلاع الحزب الحاكم لمعظم القواعد الشعبية الانتخابية لأحزاب المعارضة وأهمها حزب الشعب الجمهوري والذي يَعتبر نفسه أنه حزب أتاتورك مؤسس الجمهورية الحديثة وأبو الأتراك.

وعندما بدأت الأعراض الجانبية للطفرة الاقتصادية بالظهور اعتباراً من 2017 وكانت طفيفة ولكنها تزداد عُمقاً مع الأيام، بدأت الهالة الكبرى للحزب الحاكم يصيبها الأذى إضافةً لأخطاء ارتكبت خلال عقدين من الزمن بفعل ممارسة الحكم، وظهور جيل جديد لا يعرف تركيا قبل العدالة والتنمية حيث كانت الانقلابات العسكرية وحالة عدم الاستقرار السياسي والتخلف الاقتصادي، ولم يُقارن جيل الشباب بين تركيا قبل العدالة وبعدها، بل ما يعرفه أنّ تراجعاً بدأ يظهر على مستوى معيشته والخدمات الحكومية المقدمة له، والتقط حزب الشعب الجمهوري تلك التحولات وبدأ العمل عليها لاستعادة حضوره على الساحة السياسية بعد إقصاء دام طويلاً وخسر الحزب كل معاركه الانتخابية أمام حزب الحكومة.

نجح حزب الشعب الجمهوري بحصد نتائج تلك المرحلة واستطاع في عام 2019 الظفر بالبلديات الكبرى في إستانبول وأنقرة وإزمير، وبات خصماً سياسياً مُهماً لحزب العدالة وليس نِمراً هرماً يتغنى بإنجازات تاريخية أو جزءاً من الماضي غير قادر على الحياة مجدداً.

وتُدرك المعارضة والحكومة في تركيا أنّ الأزمات الاقتصادية والمالية هي أزمات لا علاقة للأداء السياسي بها بل هي من أمراض النظام الرأسمالي والذي يَقدر على التعافي ولكنه بحاجة لوقت ولمزيد من الإجراءات الصارمة والتقشفية ورفع للضرائب وإصلاحات اقتصادية يمارسها التكنوقراط وليس الساسة.

ولأنّ حزب الشعب الجمهوري ابتعد طويلاً عن الحكم وممارسة السياسة (في الداخل والخارج) وكانت كل نجاحات العقدين الأخيرين وإخفاقاته ترتبط بالحزب الحاكم، فإنه وجد قضية للنيل من شعبية حزب الحكومة لها بُعد داخلي وخارجي، وهذه القضية صنعتها الحكومة من ألفها إلى يائها وهي الدور التركي في الثورة السورية.

لذلك عمل حزب الشعب الجمهوري مُتعمّداً على ربط الأزمة الاقتصادية الحالية بقضية اللجوء السوري في تركيا، وعملت ماكينته الإعلامية على ترسيخ ذلك في الوجدان الشعبي، وبما أنّ المعارضة لا تملك حلاً للأزمة الاقتصادية ولم تطرح ذلك في حملاتها الانتخابية، فإنها ركزت جهودها على أنّ حل الأزمة الاقتصادية مرتبط بحل قضية اللجوء السوري، وأيضاً ساهمت في تعزيز الخطاب العنصري ضِدّ السوريين، وإزاء تَردّد الحكومة والحزب أو عدم إيلائها ما تستحق من جهود للتصدي لها، بل على العكس ساهمت تصريحات رسمية تركية بتأييد وجهة نظر المعارضة دون أن تقصد ذلك.

وازدادت حملات المعارضة على اللجوء السوري لتقويض شعبية الحكومة وبدأت تلك الحملات الشعبوية تُحقّق نجاحات في ذلك في ظل تدهور الحالة الاقتصادية وأثبتت انتخابات السنة الماضية (البرلمانية والرئاسية) نجاح المعارضة في مساعيها، وكانت الانتخابات البلدية الأخيرة كارثية على العدالة والتنمية حيث حققت المعارضة أكثر مما تحلم به، وأظهرت تَغيراً جذرياً في عقلية الناخب التركي وابتعاداً عن حزب العدالة والذي عاقبه الجمهور في رسالة مهمة للاستحقاقات القادمة بعد أربع سنوات، وهي فترة قصيرة نسبياً إذا ما أراد الحزب الحاكم من استعادة بعض من شعبيته.

ولمس السوريون في تركيا تغيراً في تعامل أجهزة الدولة معهم من حيث مضايقتهم والتشديد عليهم والترحيل القسري على مخالفات هامشية لا تتطلب ذلك، والتساهل الكبير بمعاقبة الأفعال العنصرية ليس في الخطاب فحسب، بل في الأذى الجسدي وتخريب الممتلكات والشتم وشتى أنواع الأذى المعنوي، وحاولت الحكومة بتلك الأفعال سحب تلك الورقة المهمة من أيدي المعارضة، وكانت الخطابات الرسمية قبل انتخابات العام الماضي تطرح سعي الحكومة لإعادة مليون لاجئ سوري إلى الشمال، وكل ذلك كان من باب التسابق مع المعارضة على كسب شعبية من الناخبين، وبالطبع ما تمّ ترحيله قسرياً بالآلاف وتم تسليط الاضواء عليه أكثر من حجمه الحقيقي، وبالطبع تلك الوتيرة من الترحيل لن تحلّ مشكلة اللجوء السوري في تركيا، ولاشكّ أنّ التضييق عليهم أدّى لخروج حوالي مليون سوري من تركيا إلى أوربا وغيرها من الدول، وماهو باقٍ منهم إما أخذ قراراً نهائياً بالبحث عن مكان آخر و بدأ يُصفي أوضاعه في تركيا، وقسم آخر يفكر بمغادرة تركيا جدياً في القريب.

لكن ستبقى كتلة ضخمة في تركيا نفسها وستتحول الى ميدان للتجاذب السياسي الداخلي، ولا أعتقد أنّ الحملة الممنهجة عليهم أو المضايقات والاستفزازات ستتوقف نهائياً، لأنّ ذلك سيكون البرنامج الرئيسي للانتخابات القادمة بعد أربع سنوات، أو الموضوع الأول إذا ما جرت انتخابات رئاسية مبكرة تشعر المعارضة أنها قد تفوز بها.. مع علم الجميع أنّ ملف اللاجئين السوريين ملف دولي ومرتبط بالحل السياسي وفق القرار 2254، ولا تملك أيّ جهة حق التصرف فيه منفردة، ولم يتخلّ المجتمع الدولي عن تقديم الأموال للمجتمعات المضيفة للاجئين في دول الجوار وكان آخر تلك المؤتمرات، اجتماع بروكسل 8 للمانحين، وتدرك المعارضة والحكومة أنّه بوجود الأسد لن يعود لاجئ واحد إلى سوريا، كما أن الأسد الغير مسيطر على قصره الجمهوري لن يتمكن من ضمان أمن تركيا في حدودها الجنوبية، وستعود ميليشيات الـ PKK إلى كامل الشريط الحدودي برفقة ميليشيات إيرانية من مختلف الأشكال والمُسمّيات.

2- ملف التقارب التركي مع نظام الأسد

بدأ هذا الملف للظهور في صيف العام 2022 بعد قمة أستانة في طهران، وكان وقتها يشير إلى إحباط القيادة التركية من الإدارة الأمريكية لرفضها أيّ عملية عسكرية تركية شرق الفرات عربوناً لوقوف تركيا بحزم إلى جانب الناتو في الحرب ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وكاستجابة لرغبة داخلية تركية خاصةً أنّ انتخابات ربيع 2023 باتت على الأبواب.

رفض الشارع السوري في الشمال تلك التصريحات والخطوات التي قد تتبعها مُعتبراً أنّ القضية السورية أولاً وأخيراً تَخصّ السوريين، واعتبروا أنّ تطبيع العلاقة بين أنقرة ودمشق شأن سيادي تركي، ولكن لا تستطيع أنقرة فرض وصايتها على اولياء الدم وأصحاب القضية من السوريين.

وترافقت الحملة الانتخابية للعدالة والتنمية بتصريحات ودية تجاه نظام الأسد، ولكن الأخير كان حريصاً على حرمان العدالة والتنمية من تلك الورقة وإبقاؤها في أيدي أصدقائه في المعارضة التركية، وفشل المسار الثلاثي الذي رعته موسكو فشلاً ذريعاً، وساعد في ذلك انضمام إيران لذلك المسار حيث اجهضته تماماً دون حدوث أيّ تقدّم فيه.

نامت التصريحات والمواقف التركية بعد ذلك ما يقارب العامان، إلى أن ايقظها من ثُباتها فوز حزب الشعب الجمهوري فوزاً تاريخياً في الانتخابات البلدية الأخيرة، وانعش آماله بالوصول للحكم عن طريق المزيد من إحراج الحكومة بالملف السوري، وخرجت تصريحات متتالية من المعارضة، وخاصةً على لسان أوزيل رئيس حزب الشعب الجمهوري الجديد عن عزمه زيارة دمشق وإجرائه لوساطة بين أردوغان والأسد، لم يتأخّر رَدّ الرئيس التركي حيث سحب الورقة من يد خصمه معتبراً أنّ لا ضرورة لذلك وإنما تربطه علاقات عائلية بالأسد قديماً، وإنه بصدد القيام بخطوات مستقبلية لتحسين العلاقات مع دمشق.

كان الشارع السوري مُحتقناً خلال هذه الفترة بسبب زيارة وفد روسي لمدينة الباب أتبعها الإعلان عن نِيّة رسمية لفتح معبر أبو الزندين مع مناطق سيطرة النظام، في خطوة رفضها أغلب السوريين معتبرين أنها دليل ملموس على الأرض لإجراءات أبعد من ذلك ورفضوا أيّ مبررات اقتصادية تعود بالنفع عليهم واعتبروه خطوة سياسية لها تداعياتها.

ومما زاد في الطين بلة تصريحات منسوبة للرئيس التركي في طائرة عودته من قمة شنغهاي للأمن والتعاون والتي عُقِدت مؤخراً في كازاخستان واجتمع خلالها مع الرئيس الروسي، وقد أعرب الرئيس التركي عن نيته توجيه دعوة لبوتين لزيارة تركيا وقد يكون مناسباً توجيه دعوة للأسد للحضور إلى أنقرة، وبالتأكيد هذا سيزيد من احتقان الشارع السوري.

3- ملف الإدارة التركية للشمال السوري

يُعاني هذا الملف من إدارة أمنية، تنجح في كشف الشبكات التخريبية لداعش وقسد والاسد وتُحقّق نوعاً جيداً من الأمن النسبي لتلك المناطق ومواطنيها، لكن تدخل الولايات التركية عبر منسقيها في كل مفاصل الإدارة ورسم الخطط والسياسات العامة لم يكن ناجحاً، حيث لم تتوفر أدنى شروط الحوكمة المطلوبة للنهوض بواقع المنطقة اقتصادياً واجتماعياً.

وعلى المستوى العسكري لم تنجح الإدارة التركية المشرفة على المنطقة في إلغاء الفصائلية المقيتة (أو الحدّ منها) وبناء قوة عسكرية نظامية بقيادة مركزية تتبع لوزارة دفاع الحكومة المؤقتة والتي هي غير مقبولة شعبياً وضعيفة الإمكانات المادية، كما أنّ التمثيل السياسي لقوى الثورة السورية والذي تتحكم به تركبا غير مقبول شعبياً أيضاً واذكر بالتحديد هنا الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض السورية، كما أنه لا يوجد رضى على طريقة انتخاب وأداء المجالس المحلية والتي تتحكم بها تركيا أيضاً.

وما هو مطلوب شعبياً الوصول لتنسيق عالي المستوى بين قيادة سورية وطنية تُمثّل المناطق المحررة أشبه بالتحالف الإستراتيجي بين الطرفين يُعطى فيه دور كبير للجانب التركي بالدفاع عن المنطقة وحفظ أمنها ومراعاة مصالحها التي تتقاطع مع مصالح السوريين، ولكن دون تدخل بالشؤون الإدارية والتي سيكون من الواجب تركها للسوريين أنفسهم، والأهمّ من ذلك عدم فرض تصورات على السوريين عن مستقبل ثورتهم وكفاحهم ضد نظام الأسد العدو الاول لهم درءاً لأيّ خلافات مستقبلية.

مجموع العوامل الثلاثة أدّت للغليان الشعبي العارم والذي لم يكن ينتظر إلا الشرارة لإشعاله، وأتت تلك الشرارة من ولاية قيصري التركية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني