fbpx

تَغيّر في طبيعة وأهداف الضربات الإسرائيلية في سوريا

0 5٬386

كان التخادم الأمريكي مع إيران مُؤذياً للدول العربية وخاصة دول الخليج وبنفس الوقت كان مُؤذياً أيضاً للدولة العبرية، ولم تَتمكّن كل الضغوط واللوبيات (الخليجية والإسرائيلية) في واشنطن من ثَني إدارة الرئيس أوباما عن توقيع الاتفاق النووي مع إيران في تموز 2015، وبالتالي فَضّل الأمريكان وضع البرنامج النووي الإيراني تحت الرقابة الدولية مقابل إلغاء كامل العقوبات والإفراج عن عشرات المليارات المُجمّدة ووصولها للحرس الثوري والذي أخذ ضوءاً أخضراً للتمدد في الإقليم وإنشاء الهلال الشيعي.

كانت الخطة الإسرائيلية تتمحور فيما عُرِفَ بالحرب بين الحروب أو استراتيجية قَصّ العشب، وغايتها إبعاد التموضعات العسكرية النوعية للميليشيات الموالية لإيران عن حدودها، ولا يَهمّها إِن دَعَمَ الإيرانيون نظام الأسد وارتكب المجازر بحق المدنيين السوريين ولا يَهمّها كل مشاريع التغيير الديمغرافي والتبشيري التي تقوم بها ميليشيات الحرس الثوري.

كانت الحسابات الجغرافية عاملاً هاماً للإسرائيليين للشعور بعدم الخطر، بمعنى الابتعاد لمسافات عن الجولان المحتل بحيث لا تُشكّل الأسلحة الإيرانية خطراً عليها قياساً لتدني مستوى تقنية تلك الأسلحة وقِصَر مداها وعدم دِقّة إصابتها لأهدافها والركون لنظام دفاع جوي ممتاز ومُتطوّر يُعرَف بالقبة الحديدية.

ما طرأ في السنوات الأخيرة هو تطوير إيران لبرنامج صاروخي بالستي بات يُهدّد إسرائيل من مسافات بعيدة بالإضافة لتحسين دِقّة إصابتها بحيث تَمّ إطلاق عليها تسمية الصواريخ الدقيقة أو الذكية، إضافةً لامتلاك إيران لصناعة الطيران المُسيّر وبراعتها في تطويره باستمرار وبالطبع تمتاز تلك المتفجرات المحمولة جواً والمسماة درونات انتحارية بدقة الإصابة ونظام التوجيه عبر الـ GBS إضافةً لِقطعها مسافات طويلة وصعوبة كشفها من شبكات الدفاع الجوي التقليدية ورخص ثمنها حيث يُمكن إطلاق العشرات منها دفعة واحدة وإذا وصلت عدة طائرات منها لأهدافها ولم يَتمّ إسقاطها فإنها تكون قد حققت أهدافها.

وبدأت الاستهدافات الإسرائيلية تطال تلك الأسلحة المُرسلة من إيران عند عبورها للحدود السورية العراقية ورصدها أو في مستودعات تخزينها وكانت الغاية الأهمّ عدم وصول تلك الأسلحة لحزب الله.

ثم لجأ الإيرانيون إلى تصنيع تلك الاسلحة النوعية في معامل أو ورش مُحصّنة في سوريا نفسها لتلافي استهدافها على طرق توصيلها، وبدأ القصف الإسرائيلي يستهدف مراكز التجميع تلك.

كل ذلك يَتمّ وفق قواعد اشتباك رعاها الروس بين الطرفين وحازت على عدم معارضة الأمريكيين لها، بل ارتاح الأمريكان للدور الروسي بضبط العلاقة أو قواعد الاشتباك بين الإيرانيين والإسرائيليين على الأرض السورية بحيث لا تخرج عن السيطرة ولا تؤدي لاندلاع مواجهات كبرى بين الطرفين.

والحروب الرمادية كما يراها بعضهم وقواعد الاشتباك التي تَتَضمّنها تَتمّ بين فريقين عبر طرف ثالث وهي تفاهمات غير مكتوبة ويُمكن لأحد فريقي الصراع انتهاكها ويقوم الآخر بالرد عليه لعقابه، وهي حالة لا حرب ولا سلم ولا اتفاق بين الخصوم.

في صيف 2018 خَدَعَ الروس أصدقاءهم الإسرائيليين وخدعوا العم سام أيضاً وبعض العرب وتعهدوا إذا ما تَمّ إنهاء الدعم للفصائل الثورية في الجنوب السوري وتسليمه لهم دون حرب فإنهم يتعهدون بعدم السماح بتواجد الميليشيات التابعة للحرس الثوري بالاقتراب من الحدود مع الجولان المحتل لمسافات حَدّدتها واشنطن وتل أبيب، ولم يلتزم الروس بتعهداتهم وباتت الميليشيات التابعة لإيران تنتشر على كامل حدود الجولان والحدود مع الأردن وتُشكّل امتداداً لتواجد حزب الله اللبناني على كامل الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.

بانشغال بوتين بحربه على أوكرانيا ازدادت نوعية الضربات الإسرائيلية للأهداف الإيرانية نوعاً وكماً ولم يَعُد الحصول على موافقة روسية ضرورياً، ولكن استراتيجية جَزّ العشب وقواعد الاشتباك السابقة لم يَتمّ انتهاكها ويوجد حرص من كل الأطراف على عدم تغييرها، وفي فترة من الفترات اهتمت الدولة العبرية بتصعيد حربها على إيران نفسها وليس على أذرعها في سوريا، حيث اهتمت أكثر بالحرب السيبرانية واغتيال الخبراء في إيران نفسها ممن لهم أنشطة في تطوير الأسلحة التي تخشاها إسرائيل أو من خبراء يعملون في البرنامج النووي.

الحدث الذي غَيّر كل المعادلات وأسقط كل التفاهمات السابقة هو ما جرى في 7 أكتوبر 2023، حيث اكتشفت الدولة العبرية خطأ سياساتها السابقة بالركون لوهم قوتها الرادعة وعدم اجتراء الخصوم والأعداء عليها وعدم الركون لكل تخادم معهم والرهان على عدم تخطيهم لخطوط حمر بديهية مع سقوط نظرية الحماية عبر التقنيات الإلكترونية، وإدراك أنّ حرب المشاة لتنظيمات دون الدولة ممكن أن تخترق كل تحصيناتها بأعداد قليلة وأسلحة خفيفة تُعتبر بدائية، وكانت الضربة الموجعة لدولة الاحتلال في 7 أكتوبر والتي سَتُؤسّس لكل السلوك الإسرائيلي في المنطقة بعدها.

ووفقاً لما يقوله قادة دولة الاحتلال فإنهم لن يسمحوا بطوفان آخر من أي مكان وفي أيّ زمان والمقصود طبعا الطوفان الذي سيأتي من الشمال من ميليشيات متعددة في سوريا ولبنان تتبع للحرس الثوري.

وكانت الاستهدافات الإسرائيلية في سوريا للميليشيا الإيرانية بعد 7 أكتوبر تعكس حالة انتقامية لإثبات قوة الردع التي أصابها عطب شديد ولإكساب الجمهور الإسرائيلي المذعور ثقة بقدرات جيشه واستخباراته، وكان استهداف المطارات السورية لتعطيل حركة الكوريدور الجوي إضافةً لضربات على أهداف متحركة وثابتة في الكوريدور البري.

الاستهداف بالنقطة

وقد لوحظ بداية من أواخر العام الماضي تَغيّر نوعي في طبيعة وأهداف الضربات الإسرائيلية ما يُؤشّر لاستراتيجية جديدة سَيتمّ انتهاجها.

الميليشيات ليست مؤسسات تقوم بتخريج القادة باستمرار بنفس السويّة والكفاءة للحلول بدل القيادات السابقة، إنما تكون الشخصيات القيادية في الميليشيات تَتَمتع بكاريزما خاصة ولها تاريخ وخبرة وكفاءة مّكتسبة وتقوم بعدة أعمال بوقت واحد حيث شخصية الحاج او الشيخ او المعلم تكون محورية بكل مفاصل العمل وبتواصل مع الأعلى منه ومع مرؤوسيه دون اعتبار لقوانين ناظمة، لذلك إنّ فقدان أيّ قيادي في تلك الميليشيا ليس من السهل تعويضه وبالتالي قتل عدد من القياديين سَيشلّ أو يضعف كثيراً من فاعلية التنظيم، وغالباً يمتلك القادة الرئيسيون في الميليشيا قدرة على التخطيط إضافةً لخبرتهم وحرصهم على ضمان امنهم الشخصي.

إنّ بداية الاغتيالات الكبرى بدأت مع رضي الموسوي في آخر أسبوع من العام الماضي وهو من رعيل قاسم سليماني (والذي لم يُعوّض خَلَفه إسماعيل قاآني غيابه مع شغله لمنصبه وتَمتّعه بنفس الصلاحيات والإمكانيات).

وبالطبع استمر النهج الإسرائيلي الجديد في لبنان أيضاً وتم اغتيال قادة مُهمين بعمليات استهداف بالنقطة حيث يُراعى عدم إصابة مدنيين ولا تدمير الأبنية كاملةً لضمان قتل المستهدف من العملية، إنما قتل المسؤول فقط كما حدث أثناء اغتيال صالح العاروري في المربع الأمني لضاحية بيروت الجنوبية، واغتيال ضباط كبار في الحرس الثوري الإيراني في حي كفرسوسة الدمشقي والذي يُعتبر المربع الأمني لنظام الأسد، وفي الغالب لا يُعلِن الإيرانيون ولا الإسرائيليون عن أسماء القتلى ومناصبهم.

وتنفيذ تلك العمليات مُعقّد ويحتاج لشبكة عملاء واسعة على الأرض ودقة الرصد لان المستهدف دائم الحركة ولا يُؤخذ على حين غِرّة بل هو يأخذ أقصى احتياطاته الأمنية، وهو هدف متحرك وغير ثابت يُغيّر مكانه باستمرار، ومُؤخراً تم قتل مجموعة من حزب الله مسؤولة عن تطوير تقنيات المسيرات الإيرانية في شقة ضمن بناء في حي الحمرا في حمص، وفي اليومين الماضيين تم استهداف دمشق ثلاث مرات في يوم واحد واصطياد مطلوبين لإسرائيل في شقة في حي كفرسوسة والديماس.

ومرشح لهذه الاستراتيجية الإسرائيلية أن تستمرّ فيما إذا تركت أثاراً واضحة على تلك الميليشيات وأضعفتها وأبعدت قياداتها الكفوءة عنها، ولا شَكّ أنّ تقنية الذكاء الصناعي التي تُجيدها إسرائيل تُستعمل على نطاق واسع في تعقب القادة واصطيادهم.

وليس من السهولة على الميليشيا التابعة للحرس الثوري تفادي تلك الضربات لأنّ الاختراقات الأمية في صفوفها واسعة جداً ونوعية أيضاً وهي لو أرادت تفادي تلك الضربات فعليها وضع خطط لإعادة هيكلة وتصفيات وإبعادات للكثيرين وهو أمر يحتاج لوقت طويل لأنّ (دود الخل منو وفيه)، وقد يكون إضعاف تلك الميليشيا مقدمة ضرورية لطردها من سوريا قريباً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني