تنمية واستقرار المحرّر.. الأمن والقضاء المستقل ركيزتاها المطلوبتان
الحديث عن تنمية اقتصادية اجتماعية علمية، يتطلب بالضرورة الحديث عن أمرين أساسيين، يشكّلان ركيزتين لهذه التنمية، الركيزة الأولى، تتعلق بالواقع الأمني في منطقة التنمية والاستثمار، والركيزة الثانية، تتعلق بوجود قضاء حقيقي يتسم بالاستقلالية عن الجهات التنفيذية أو السياسية أو التشريعية.
وبما أن الأوضاع في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام بحاجة لاستقرار مستدام، فهذا لن يتمّ بدون وضع خطط تنمية شاملة، هذه التنمية، تستند على الاستثمارات الداخلية والخارجية، ونقصد بالاستثمارات، كل المجالات التي تتكامل فيها التنمية الشاملة بفروعها الاقتصادية، والعلمية، والبشرية، والاجتماعية… هذه التنمية، ترتكز على أمرين حاسمين، هما توفر الأمن الداخلي وتوفر القضاء المستقل، وهما أمران لا يزالان في مناطق الشمال المحرر في حالة تخلف شديد عما تتطلبه عملية التنمية الشاملة، فرأس المال جبان كما يقال، وهو لا يستثمر في بيئات لا يتوفر فيها أمن عميق، وقوي، وإنساني، وقضاء عادل مستقل غير خاضع لقوى غير إرادة الشعب.
توفر الأمن الحقيقي والقضاء المستقل هو من شأن عمل الحكومة المؤقتة في مناطق الشمال المحرر، وهذا العاملان إلى جانب العوامل الخدمية وتهيئة البنية التحتية سيجعل من الحكومة المؤقتة الجهة الوحيدة المسؤولة عن إدارة كل شؤون الحياة المدنية في مناطق نفوذها، وتحت رقابة الائتلاف الوطني الذي يشكل مرجعية وجودها.
ركيزتا الأمن الداخلي والقضاء المستقل بحاجة إلى وجود قيادة سياسية تمتلك رؤية استراتيجية لتطوير مناطق الشمال المحرر، والذي يحتاج بدوره، إلى إدارة الحكومة المؤقتة لهذه المناطق بصورة كلية وشاملة، دون شركاء جانبيين، ممن يطلق عليهم تسمية “سلطات الأمر الواقع”.
الأمن الداخلي في مناطق المحرر بحاجة إلى تغيير عميق في بنيته وتكوينه ومرجعيته، فمن جهة يجب أن يكون جهاز الأمن الداخلي مركزي، أي يتبع وزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة، وأن تعمل فروع هذا الجهاز في مناطق الشمال المحرر وفق قاعدة لائحة تنظيمية تنظّم عملها، وتكون مرجعية لتأدية واجبها في حفظ الأمن الداخلي. أي يكون لها قوانين واضحة تحدّد مسؤولياتها ودورها في جعل المنطقة آمنة.
الأمن الداخلي في مناطق المحرر حالياً هو من مسؤولية المجالس المحلية، وهذه المجالس تحوز مسؤوليات كثيرة وهامة في ذات الوقت، فهي تلعب دور البلدية بصورتها المعروفة، وكذلك تلعب دور مؤسسة المياه والكهرباء والصرف الصحي وغيرها من مسؤوليات بما فيها الأمن الداخلي.
المجلس المحلي بصورته ووظيفته الحالية هو عبارة عن حكومة مصغرة بكل وزاراتها، وهذا تجاوز حقيقي لاختصاصات مؤسسات خدمية عديدة، يجب أن تكون ذات شخصية اعتبارية مستقلة. فالواقع الذي امتلكت فيه المجالس المحلية كل هذه المسؤوليات والصلاحيات المختلفة، قد يكون في حينه ضرورة مؤقتة باتجاه تغيّر الواقع ومتطلباته، أما في حالة المرحلة الحالية وهي مرحلة ضرورة التطوير الشامل والمركزي لمناطق الشمال المحرر، فالأمر يحتاج إلى إعادة النظر بلوائح ببنية المجالس المحلية والمهام الموكلة إليها، وضرورة تبعيتها إدارياً لوزارة مختصة في الحكومة المؤقتة (وزارة إدارة محلية)، والتي تصدر لوائح تنفيذية ذات صفة قانونية تعمل بموجبها هذه المجالس.
إن المجالس المحلية بوضعها الحالي هي مؤسسات غير قادرة على حمل عبء مسؤولية إعادة بناء وتطوير البنية التحتية لمناطق الشمال السوري المحرر، وتحديداً بما يخصّ فرض الأمن في هذه المناطق، فهذه المهمة الحاسمة كركيزة للتنمية بصورة عامة، وللتنمية الاقتصادية بصورة خاصة، بحاجة إلى جهاز مركزي يشمل جميع مناطق الشمال المحرر، تحكمه قوانين عمله التي تتحدد بفرض الأمن في ربوع نفوذه، مما يساهم بخلق مساعٍ للاستثمار الاقتصادي لرؤوس الأموال المحلية أو الخارجية.
إن الحكومة المؤقتة وفق تبعيتها السياسية ملزمة بتقديم رؤيتها حيال الأمن، بحيث تكون وزارة داخليتها هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن فرض الأمن وسيادة القوانين في المحرر، ولا ينبغي أن يشاركها أي طرف أو جهة عسكرية مهامها، فالجيش الوطني الذي تعود تابعيته إلى وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة ليس من اختصاصه التدخل بشؤون الأمن الداخلي، وإنما تنحصر مهمته بالحفاظ على ردع أي اعتداء من قوى معادية للثورة وحاضنتها الشعبية.
الحكومة المؤقتة مطالبة أن تقدم رؤيتها الموضوعية للنهوض بجهاز الأمن الداخلي وفق خطة عمل واضحة، هذه الخطة يجب أن تبعد الفصائل العسكرية عن أي تدخل أمني، أو اقتصادي، أو اجتماعي، أو تعليمي الخ.
لذلك يجب أن تقوم القيادة السياسية بوضع الرؤى الاستراتيجية الخاصة بمفهوم الأمن الداخلي ومستلزماته وأسلوب تأدية المهام الأمنية بما يتناسب مع الحدود المقبولة بلائحة حقوق الإنسان الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة.
إن توفير الأمن ضرورة مركزية وحاسمة ملقاة أمام الحكومة المؤقتة، وهذه الضرورة الأمنية تحتاج دعماً لوجستياً من الضامن التركي في هذه المناطق، وبدون توفير هذه الركيزة وشقيقتها ركيزة القضاء المستقل فإن أوضاع الشمال المحرر ستسوء يوماً وراء يوم، وسيحدث خلال ذلك نزيف الطاقات الشبابية بكل فئاتها واختصاصاتها، فلا أحد سيبقى جائعاً أو خائفاً في منطقة لا تحدث فيها عوامل الاستقرار الشامل والتنمية المستدامة.
فهل تبادر قيادة قوى الثورة والمعارضة (الائتلاف الوطني السوري) إلى شقّ الطريق أمام هذه التغييرات الضرورية لتطوير مناطق الشمال المحرر؟ ننتظر خطوات هذه القيادة عملياً، فبدون ذلك سيتآكل الشمال المحرر، ويصبح هدفاً لأطماع قوى، تريد إعادة إنتاج نظام شمولي بوجه جديد، يلتهم عذابات السوريين وتضحياتهم، ويدوس على أحلامهم بالحرية، والكرامة، وبدولة مؤسسات قانونية، تحترم الإنسان، وتضعه على رأس أولوياتها كهدف رئيس.