تغيّر موازين القوى على الأرض سيؤدي لتحرير مناطق جديدة
يجري الآن إعادة بناء للشرق الأوسط، وبالذات ما يدخل ضمن ما يُعرف بمسمى الهلال الشيعي، وهو قد يكون نتيجة للفوضى الخلاّقة التي بَشّر بها الأمريكان في المنطقة لهدم كل ما هو قائم واعادة بنائه وفق المصالح الغربية.
فلو كان تدمير العراق بعد احتلاله بسبب كما إدعى المحافظون الجدد لإعادة نشر الديمقراطية وتعليم البشر ممارستها، أو كما قال بعضهم وشاهده الجميع هو ردّة فعل للذئب الأمريكي الجريح عند نَيل فتية ينتمون للجهاد العالمي السني من عنفوان القوة الأمريكية العظمى والوحيدة في العالم في 11 أيلول 2001، وبالتالي انفلات عقال الهمجية والانتقام الأمريكي على دولتين سُنيّتين هما أفغانستان والعراق، وإن كان لأفغانستان سبب غير مباشر في احتضان القاعدة العالمية فإنّ العراق تم اختراع أسباب لغزوه تبين فيما بعد أنها ادعاءات باطلة.
قد يكون غزو العراق وتحطيم الجدار الصلب الذي يَصدّ الطوفان الإيراني عن بقية العرب السنة هو السبب الأكثر قبولاً عند البعض لمعاقبة الأمة السنية بالغول الشيعي الدموي الحاقد وتمكينه من رقابهم وبلادهم، وبالتالي استحضار التاريخ من جديد لداحس وغبراء سنية شيعية تُلهي الجميع عن الأمم الغربية ويستنفذ فيها الخصمان الشرقيان كل قواهما في حرب عبثية لإنهاء بعضهما وبالتالي طلب المساعدة أو الحماية من الغرب للحفاظ على التوازن بل على الوجود.
ويرى بعضهم أنّ الرئيس الديمقراطي باراك أوباما والذي كان وجوده (والخط الذي يمثله) في تلك الفترة الحرجة إذ جلس على عرش الأبيض 8 سنوات عجاف مرّت على العرب السنة في المنطقة.
لا يُخفي أوباما إعجابه وشغفه بالأمة الفارسية وحضارتها واستخفافه بالحضارة العربية والإسلامية، بل بالتأكيد هناك مصالح أمريكية كانت وراء سياساته منها تحجيم للدول العربية السنية، ومنها رؤيته (والتي تبين خطؤها لاحقاً) بأنّ الإسلام الشيعي مُنظم وفق مرجعيات ذات تأثير روحي ومادي على جمهورها بحيث يتمكن من التفاهم مع الولي الفقيه في طهران (بغض النظر عن شعارات نظام ولاية الفقيه المرفوعة للاستهلاك المحلي كوصم الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر) في إنشاء منظومة أمنية في المنطقة برعاية أمريكا ويكون قطبيها الآخرين إسرائيل وتركيا.
فشلت كل الجهود الأمريكية وتبين عدم فهمهم لحقيقة المشروع الإيراني وإنّ مراهنتهم عليه كان في لحظة غضب وطيش بسبب هجمات نيويورك، ولم يتعاون الإيرانيون معهم إلا بما يُحقق مصلحتهم وضرب عرض الحائط بكل المصالح الأخرى.
عسكرياً أفشل الحرس الثوري الغزو الأمريكي للعراق وتقديمه للعالم كحرب طائفية دموية صنعها الحرس بين القاعدة وجيش المهدي ثم بين الحشد الشعبي وداعش. كما أنّ نموذج ولاية الفقيه لم يتمكن من تحقيق أيّ استقرار في المجتمعات التي سيطر عليها وكان تغييب الدولة الحقيقية بعد تخريبها وإنشاء دول الميليشيات أدى لنهب الثروات الوطنية وإفقار المجتمعات وانتشار المخدرات وكل حالات عدم الاستقرار.
ولم يلتزم الإيرانيون ولا لحظة بالاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما معهم ما اضطر خلفه ترامب للخروج منه، وكان قاسم سليماني وعياله لا يخفون سعيهم لطرد الأمريكان من المنطقة وإزالة إسرائيل كي تكون المنطقة حكراً لهم.
وعندما غزا بوتين أوكرانيا انحازوا عسكرياً لصف عدو الغرب الأول وزودوه بما يملكونه من عتاد.
كان الطلاق البائن بعد 7 أكتوبر 2023 حيث قام الحرس الثوري عبر فصائل من غزة بهجوم غير مسبوق وهو في عُرف الأمريكان 11 أيلول جديدة، ولو توانى الأمريكان بالرد عليها كما يردون الآن لكررها الحرس الثوري حينما تسنح له فرصة أخرى وعندها المحاولة قد تكون اغتيالاً كاملاً للوجود الأمريكي والغربي عبر اغتيال إسرائيل في المنطقة؛ وليس محاولة اغتيال وتهديد كما جرت مؤخراً.
فهمت الولايات المتحدة الدرس الإيراني وقررت الرد عليه بعكس ما توقعت إيران أو اشتهت، وبدأت حرباً لن يكون فيها فائزان أو خاسران أو متعادلان، بل فريق خاسر وفريق رابح، وبدأت حرب انتهت بتدمير غزة وفصائلها المنضوية ضمن الحرس الثوري، وتدحرجت الحرب إلى درة التاج الإيراني وأقوى الأذرع المفتولة العضلات وجرى تهشيمها ويجري سحقها الآن في لبنان.
احتمالات امتداد الحرب إلى سوريا
يعتبر الحرس الثوري ميليشيا نظام الأسد كأحد أذرع ولاية الفقيه ويعتبر الأراضي السورية هي الرابط بين حلقات المحور الممتد من طهران شرقاً إلى ضفاف المتوسط غرباً، وتُؤمّن جبهة الجولان تماساً جغرافياً مع إسرائيل بعد خسارة غزة وجبهة الجنوب اللبناني، ومن الجولان يمكن للميليشيا الإيرانية أن تقوم مستقبلاً بطوفان جديد بري، كما تُشكّل مسافة صفر لإطلاق صواريخ ومسيرات إيرانية على إسرائيل، وتُشكّل الأراضي السورية العمق الاستراتيجي وخط الإمداد الوحيد لمحاربة حزب الله لإسرائيل واستنزافها وإنّ استمرار مقاومة الحزب مرهون ببقاء الميليشيا الإيرانية في سوريا. لذلك لا فوائد استراتيجية لإسرائيل والولايات المتحدة من هزيمة فصائل غزة وحزب الله في لبنان والإبقاء على الميليشيات في سوريا، وتُشكّل الساحة السورية ساحة حرب منذ 2013 بين إسرائيل والميليشيا الإيرانية فيما يعرف بالحرب بين الحروب ونَفّذت إسرائيل مئات الضربات الجوية ضد التموضعات العسكرية الإيرانية النوعية وازدادت وتيرتها بعد أحداث السابع من أكتوبر.
وبالتأكيد فإنّ ضعفاً هائلاّ يَدُبّ في عروق ميليشيات المحور الإيراني كله والكل ينتظر دوره في ظل عجز إيران عن القيام بأي ردع حقيقي أو الوصول إلى صفقة مع واشنطن تفضي للإبقاء على نفوذ لها في المنطقة عبر أذرعها.
وتعتبر جبهة الجولان خصوصاً والجنوب السوري عموماً أحد أهمّ المناطق التي تُطالب إسرائيل بخلوها من الميليشيا الإيرانية، وبدأ منذ فترة قريبة الجيش الإسرائيلي بفتح طرق وازالة تحصينات من خط الهدنة في تصرّف فَسّره الخبراء العسكريون بأنه استعداد لاندفاع هجومي وفتح تلك الجبهة بعد إغلاق جبهة الجنوب اللبناني، وبالتأكيد سيزداد حشد الميليشيا للتصدي له وفتح جبهة ثانية مع الجيش الإسرائيلي، ولوحظ بالأمس سحب بعض من جنود روس كانوا موجودين في المنطقة، وبالتالي هذه الحرب المتوقعة في أيّ لحظة في سوريا ستشهد سحب للقوات والعتاد للميليشيا المتواجدة في الشمال السوري ما يؤدي لانهيار حاد في صفوفها مادياً ومعنوياً وقد تتعرض قبل ذلك لغارات إسرائيلية لعدم تمكينها من دعم الجبهات الساخنة.
سينشأ فراغ قوة في المنطقة ولا يوجد من يملؤه إلا فريقان مشاركان في الحرب، قسد المدعومة أمريكياً وقوى الثورة السورية المدعومة تركياً، ولأنّ الأمريكان غير المستعدين لإغضاب تركيا في هذه المرحلة فقد يكونوا غير راغبين في ملء قوات من قسد لتلك الفراغات ولا يجدون مانعاً من ملئها من الفصائل السورية الحليفة لتركيا لأنهم هم أهل تلك المناطق وتم تهجيرهم منها، حيث يتوافق ذلك مع الاستراتيجية الأمريكية باقتلاع النفوذ الإيراني من المنطقة ولا تتحمل الولايات المتحدة أيّ أعباء في الدفاع عنها أو إدارتها ولا تكسب أي عداء من الغالبية السنية العربية حيث يجمعهما الآن عدو مشترك. وبالتالي أي انسحاب أمريكي مستقبلي من سوريا لن يُخلّف وراءه اضطرابات وصراعات فيما لو ملئت قسد الفراغ الآن؛ وبما أنّ العصر هو عصر تصفية كل الميليشيات فلا يخفى على أحد أنّ ميليشيات قسد التي تقودها وتسيطر عليها هي ميليشيات الـ PKK الموالية لإيران ونظام الأسد وروسيا.
لن يمانع الروس في إملاء الفراغ من قبل قوات صديقهم التركي (ولا يملكون من القوة لكي يمانعوا)، لن تُفوّت القيادة السياسية التركية هذه الفرصة التاريخية إذ أنها عرضت على الأسد مع روسيا مراراً وتكراراً تطبيع العلاقات لحل مسالة اللاجئين ولكنه بدعم إيراني رفض، وأتت الفرصة الآن لكي تقوم تركيا وحلفاؤها بعملية (أو عمليات) لإعادة أكثر من مليوني مهجر سوري مقيم في تركيا، إضافةً إلى امتلاك أوراق جديدة لها ولحلفائها السوريين في مفاوضات الحل السياسي المقبل.
كلامك صحيح أصبت دكتور