fbpx

تباشير

0 121

تمّت الصفقة بنجاح، وحقق سيد البوم غايته قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة. وبويع قرّة عين والديه ملكاً متوجاً، وهَنِئَ بالسيادة، وبزوجه الذكية الجميلة لولا بضع منغصات بقيت تقلقه، وتخزه في الخاصرة؛ يسببها المخادعون والمنافقون المتملقون من حوله، فخشي أن يخسر بعض هيبته ومناصرة الكثيرين، وأن ينقلبوا عليه، فيفقد السيطرة على الطيور إذ راح يسمع صياح الديكة، وزقزقة العصافير المزعجة طَوَال النهار والليل.

شكا الأمر لأمّه. أشارت أن يخصيها، ويشرّد بعضها، ويقرّب الضعفاء للتكاثر، والولاء، ويعلن أن الملك منذ اليوم سيتفقد أحوال الرعية، ويعالج مشكلاتها، ويحلها بنفسه تحقيقاً للعدالة في أرجاء المملكة.

شكرت الطيور لجلالته قراره، واعتقدت أنها ستكون هانئة بخصي الديكة وتشريد بعض الطيور، ونامت قريرة الأعين زمناً؛ لكنها فقدت لذة العيش فلا ديكة توقظها، ولا فراخ أو صيصان قوية تتوالد، ولا أعلاف تُشبع، فضجّت وشكت إليه أمرها فراوغ ولم يستجب.

ضاقت الحال بها فصوتت، وصاحت، ونقنقت حول عرشه. أغضبته.. فأوعز للمقربين من حراسه أن يسكتوها فازداد صياحها وزقزقتها، وتبرّم بها، واحتار…، استعان بخبراء القمّامات من الطيور، وبالثعالب وبنات آوى. أشاروا: “اضرب القرد يتأدب الشيطان”، اضرب بقوة.. هكذا علّمنا الأسلاف.    

ضرب فصمت بعضهم.. وضرب فهرب بعضهم.. التفتَ للمقربين منه. نصحته زوجه: اضرب المتآمرين من أبناء جلدتنا أولاً. واستمرت الأصوات عالية، فازداد قلقه، وخشي العاقبة.

تذكّر حكمة الوالدة فذهب يسألها الرأي. وجدها جالسة في شرفة تطلّ على سهل يمتدّ أمامها على مرمى البصر وهي تتساءل: أين اختفت الأزهار والأشجار؟ وأين الطيور التي تسكنها؟ قالت مؤنبة: ماذا حصل يا ولد؟ أخبرني، ولا تكتم…، مازال عقل العجوز نشطاً يفكر ويعمل.

قصّ عليها الحقيقة بتفاصيلها، تأوّهت، يا لك!.. ليتني لم أوافق والدك يومها، سيقتلني الهم. أغمضت عينيها، وهاجت الذكرى

– أما آن أن يتزوّج قرّة العين؟

– بلى، أتدرين يا عزيزتي المصون بما أفكر؟

– لا، ولعل أفكارنا تلتقي؟

– يقولون ابنة جارنا الغراب شابة فائقة الجمال والذكاء.

– لقد رأيتها في بيت صديقتي، لكنّها ليست بومة.

– وما يضير؟ سيكون لنا سلالة جديدة متفوقة لأجيال عديدة إن وافق أهلها.

– أيمكن ذلك؟

– ولِمَ لا؟! فولدي سيصبح زعيم البوم وسيدها.

– آآ.. ويفتخرون أنهم أنسباؤنا؟

– أجل، فإذا ما اتحد ذكاء البوم، ومكر الغراب.. قاطعته

– ونتحكم بالغابة طولاً وعرضاً.

– وتسبّح الطيور بحمدنا.

– وهذا ما أحلم به.

أعرب لصديقه ورفيق دربه أنه يرغب بمصاهرة جاره الطيب، فأُعجب بالفكرة، وانتدب نفسه وسيطاً فهو صديق مقرب من كليهما، ولم يتوانَ. زار الغرابَ، وراح يسرد قصصاً عن العلاقات الاجتماعية المميزة بين طيور الغابة في الماضي والحاضر، ثم قال: يا صديقي سأعرض عليك فكرة لا تخطر على بالك.

– ماهي؟

– ابنتك المحروسة أصبحت شابة وهي أذكى وأجمل البنات.

– ما الأمر؟ أفصح

– تزوِّجها من ابن سيد البوم، فتصيران جارين ونسيبين.

– ماذا تقول يا أخي؟! الغربان لا تزوّج أولادها من البوم.

– هوّن عليك يا صديقي، دع الأمر لي.

– وماذا تقول الغربان عني؟

– دعهم، وليقولوا ما يشاؤون، فكّر في المستقبل، ابنتك زوج الزعيم، ستكون سيدة الغابة كلها…

وتمّت الصفقة.

استغرب شرود أمّه وصمتها الطويل، كأنما هي في غيبوبة، وهو ينتظر بما تشير، وضع يده على كتفها.. هزّها.. عادت إلى رشدها.. فتحت عينيها.. رأى أثر دمع يترقرق في مآقيها.. كرر سؤاله. قالت: يا ولدي بالضعف، وقلة الحيلة، وسوء التصرف سيضيع كلّ ما بنيناه أنا أبوك لبنة لبنة. كن طويل النفس شديداً، قوي العزيمة حازماً.

– كيف؟

– تقوّى.. اجعل لك حليفاً.

– مع مَنْ؟

– تحالف مع قمّامات الطيور، اصنع من ضالتهم جيشاً يناصرك، القمّامات تعشق اللحوم، ورائحة الدم.

– وإذا خانت أو قصرت؟

– لا ترحم.. إيّاك أن تضعف فيضيع ملكك.

– آهٍ يا أمّي! الزمن يسابقني، والنهاشون من حولي كثيرون.

– لا تهتم، ابطش بهم.

– ومن أشاروا عليّ بالبطش يغضّون عنهم الآن.

– أغرهم، لعابهم يسيل من أجل مصالحهم.

– كيف؟

– تخلّ عن بعض الامتيازات لتحتفظ بالباقي.

– ربما يزاحموني على القصر.

– لا يهمهم قصرك.

– فماذا يريدون؟

– خيرات غابتك…

– لقد تغلغلوا فيها.. وغصّت الكلمات في حنجرته.

أحسّت أن بركاناً يوشك أن يثور، وعاصفة عاتية تجتاحه، وقواه تخور، وأنه سينهار. شجعته وشدّت من أزره ليتمّ مشواره ناصحة: “المواقف العظيمة تحتاج قرارات عظيمة”، فكن عظيماً.

لمع في ذاكرتها ضوء من التاريخ، تراءت لها عائشة الحرّة تخاطب أبا عبدالله الصغير في آخر ساعاته. طلبت منه أن يأتيها بصندوق بني في غرفة نومها، أخرجت قارورة، تجرّعت نصفها، وناولته إياها. سمعها تقول: إني أكره صوت الديكة عند الفجر.

لوت عنقها.. تركته يقرر..

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني