بعد موقفه من حرب غزة.. هل من مكافأة للأسد؟
بتوقف المعارك الكبرى في سوريا في ربيع 2020 واتفاق اللاعبين الدوليين والإقليميين على تجميد الصراع بعد أن شعر كل واحد منهم أنه لا يُمكنه تحقيق المزيد، وبالطبع لا يريد اللاعبون الكبار الاصطدام مع بعضهم سواء عبر التنسيق بمنصة أستانة، أو وعي الروس بعد مجزرة خشام بدير الزور أهمية شرق الفرات للأمريكان، وأنّ عليهم الالتزام بالتفاهمات واحترامها.
وكان الأتراك حريصون (غالباً) أيضاً على عدم تحدي الإرادة الأمريكية والروسية وكانت كل عملياتهم العسكرية في الشمال السوري تَتمّ برضى موسكو أو واشنطن أو كلاهما معاً، فيما كانت الحرب الرمادية أو جَزّ العشب تسير بروتين مُملّ ولم تَعُد الضربات الإسرائيلية أو حق الرد للإيرانيين في المكان والزمان المناسبين تسترعي اهتمام نشرات الأخبار أو المتابعين، وكانت حميميم تضبط إيقاع الصراع وقواعد الاشتباك بين الفريقين.
وكما جنى الأسد ثمار التخادمات الأمريكية – الإيرانية في كثير من الملفات، وأيضاً استفاد من التوافقات الأمريكية الروسية، وحمى عرشه المُشاد على جماجم السوريين.
وكما يقول المبدأ القانوني الغُرم بالغُنم، فإنه من المًتوجّب عليه دفع أثمان الخصام كما قبض قبله أثمان الوفاق.
بالتأكيد كان الأسد يُمني النفس ويَعِدُ مناصريه بالنصر المُؤزّر نظراً لتكرار مقولة (بل ترسيخها) بأنه أفضل الخيارات السيئة للمستقبل السوري وكان يعتقد بتكرار تجربة معمر القذافي في ليبيا وعمر حسن البشير في السودان بالخروج من نفق العقوبات الغربية وإعادة تعويمه، وغاب عن باله أنّ موقع سوريا واحتدام الصراع الدولي فيها وحولها سيجعل من العسير عليه أن يرقص على الحبال الدولية والإقليمية دون أن يهوي إلى الوادي السحيق، وإنّ مستوى وحِدّة الصراع صفرية لا يوجد فيها قاسم مشترك ولو أدنى يجتمع على بقائه الخصوم.
بين عامي 2018 و2020 راودت الأسد احلام الانتصار ولكنها سرعان ما أصيبت بعطبٍ كبير بعد انهيار جزئي للتفاهمات الروسية الأمريكية وتَمثّل ذلك بإقرار الولايات المتحدة قانون قيصر ضِدّ الروس أولاً وضِدّ النظام وإيران ثانياً وبالتالي حرمان الروس من ثمار سياسية واقتصادية واستراتيجية بتكريس حليفهم مُنتصراً بنتيجة الحرب السورية.
بعد الغزو الروسي لأكرانيا انهارت كل التفاهمات بين واشنطن وموسكو وضاع أمل الأسد بالتوافق عليه كأمر واقع، وقد يكون أدرك أنّ الظهر الروسي الذي يَستند عليه سيصاب بمرض الديسك بحيث لا يعود قادراً على حمل غيره (وقد لا يقدر على حمل نفسه أصلاً) وبالطبع كانت شعيرات معاوية شبه مقطوعة مع واشنطن حيث بَدّد الأسد خلال حربه على السوريين والعنف المفرط الذي استخدمه وفتح سوريا لاستعمار إيراني خطير، كل ذلك وغيره سيجعلان وصل خطوط مباشرة علنية أمراً مُتعذّراً خاصةً في سيل القوانين والعقوبات الأمريكية والغربية عليه التي لا تتوقف، وهو يعلم أنّ الأمريكان لن يقدروا على تعويمه (في حال رغبوا في ذلك) حيث ألزموا أنفسهم بالجانب القانوني والأخلاقي قبل الاقتصادي والسياسي وقدّموا للعالم تأكيدات بحدوث مجزرة قيصر ممهورة بإقرار الكونغرس بصحتها بعد تمحيص الأدلة، إضافةً لإصدار قانون من جزأين يُصنّف الأسد كتاجر مخدرات دولي.
الضربة الكبرى الأخرى والتي تلقاها الأسد كانت انهيار كل التفاهمات الضمنية بين طهران وتل أبيب وخروج الصراع المنضبط إلى العلن بعد طوفان غزة وتداعياته، حيث لم يَعد الركون الغربي (والإسرائيلي) لحكمة الفرس واحترامهم للخطوط الحمراء أمراً قابلاً للنقاش، ودخل الشرق الأوسط مرحلة جديدة كانت أبرز معالمها جولة أولى تَمثّلت بـ 1 نيسان في تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق أعقبه رداً إيرانياً مباشراً على إسرائيل نفسها في 14 نيسان.
وفي العام 2023 التقط الأسد رغبة عربية برمي قَشّة له حتى يُنجي نفسه من الغرق وقد يكون ذلك ليس شغفاً به بل كُرهاً بالعدو الإيراني وتسجيل نقاط عليه، وفتحوا له طريقاً إلى جِدّة حيث تَمّ إعادته لشغل مقعد سوريا في الجامعة العربية حيث لازال بعضهم يرى أملا واهياً باستعادته من الحظيرة الإيرانية، وحظيت الخطوة العربية بِتمنّع أمريكي لكن ضمن شروط مُحدّدة منها عدم رفع أيّ عقوبة قبل امتثال الأسد للحل السياسي تحت المظلة الأممية وشروط أخرى منها تحجيم النفوذ الإيراني في مناطق سيطرته.
فشلت الخطوة العربية فشلاً ذريعاً لمراوغة الأسد وعدم قدرته (ويمكن رغبته) على الالتزام أو تنفيذ أي شرط أو مطلب يوضع عليه وإنما اعتباره أمراً واقعاً مُنتصراً، كذلك كان لنظام ولاية الفقيه دور كبير في ذلك الفشل حيث يُدركون النوايا العربية ويريدون المال فقط والإبقاء على الحالة السورية كما هي.
المهم، فشل الأسد في الجمع بين أضلاع مثلث المال العربي والحماية العسكرية الإيرانية والسكوت الغربي الإسرائيلي عليه (وهذه مراهنة مراهق سياسي).
الضربة الكبرى الثانية التي تلقاها على رأسه، حدثت بعد حرب غزة وأدرك أنّ من أثمانها قد يكون إسقاط نظامه الذي يتيح للحرس الثوري وحزب الله جبهة واسعة ووعرة لتهديد أمن إسرائيل، وانتقل التهديد لدولة الاحتلال العبرية من التهديد الأمني إلى التهديد الوجودي وهو مالم تسمح به أبداً.
استباقاً من الأسد لتداعيات حرب غزة، حاول النأي بنفسه عن تلك الحرب وبشكل واضح ويوصل رسائل متعددة الاتجاهات بأنه ليس كباقي الأذرع الإيرانية الطائفية (دون الدولة) بل هو دولة علمانية يحكمها حزب سلطة علماني وجيش نظامي، وأبدى انهماكاً في إصلاحات داخلية، ولم يدعه الحرس الثوري يَهنأ بذلك بل استمر في تهريب الأسلحة عبر المنافذ البرية والجوية إلى مناطق سيطرته وإمداد حزب الله وتعويضه عن خسائره في حربه مع إسرائيل.
أيضاً قامت الفصائل العراقية بزيادة استهدافها للنقاط الأمريكية في سوريا كجزء مِمّا تدعيه تلك العصابات من إسناد لفصائل غزة وكانت إحدى تلك الاستهدافات موجعة للأمريكان من داخل الأراضي السورية حيث استهدفت البرج 22 في الأردن وقتلت وجرحت جنوداً أمريكان وقام الأمريكان بالردّ عليها.
لانعرف متى سَيتمّ استهداف موقع إسرائيلي آخر من داخل الأراضي السورية، حيث يعلم الجميع أنّ الأسد غير قادر (حتى لو أراد) بمنع الحرس الثوري وحزب الله من القيام بذلك، بل يعتقد الحرس أنه صاحب الفضل والمِنّة عليه ببقائه في السلطة ولن يسمحوا له بالنزول من المركب لو أراد، ومعلوم له مصير علي عبد الله صالح عندما أراد تغيير ولاءاته وسياساته.
ولا أرى ما يراه بعضهم من مكافأة من البيت الأبيض له عندما رفض ربط حزمة قانون مناهضة التطبيع الأمريكي مع نظام الأسد بحزمة قوانين أمريكية مَرّت من مجلس الشيوخ إلى البيت الأبيض حيث مررت السلطة التشريعية والتنفيذية قانون كبتاغون الأسد 2 وسلقته على نار حامية خلال 5 أيام، وهو يفوق بأهميته مشروع قانون مناهضة التطبيع والذي يُشكّل قيمة معنوية فقط.
ويعلم الأمريكان أنّ الأسد وهو المخلب الروسي – الإيراني في المنطقة لا يمكن مكافأته بل قَصّه عندما تحين الظروف المناسبة لذلك.
كالعادة مقال قيم جداً و يضع الأمور في السياق الصحيح