fbpx

بعد قطيعة تسع سنوات بين أنقرة والقاهرة.. هل هي مصافحة أم مصالحة؟

0 1٬488

لم يتأهل منتخبا تركيا ومصر لنهائيات المونديال القطري.. لكنّ المصافحة التاريخية بين الرئيسين الغريمين المصري والتركي طغت على حفل الافتتاح الأنيق الذي نظمته قطر ونجحت به كأول دولة عربية إسلامية تستضيف هذا الحدث العالمي منذ عام 1930 من القرن الماضي.

ألهبت الصورة الوحيدة المتسربة عن تلك المصافحة وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض ومستغرب حيث بدى أن ابتسامة الأمير القطري المستضيف والواقف بينهما كانت نتيجة جنود مضنية تم بذلها.. ومما لا شك فيه أنّ أغلبية المتابعين كان سعيدا بتلك المصافحة بين رئيسي دولتين من أكبر الدول العربية والإسلامية بالمنطقة.

وإذا عدنا إلى أسباب الخلاف المصري – التركي، نرى أنه يعود للعام 2013 حيث أخذت أنقرة موقفاً معارضاً وبشدة لانقلاب الرئيس السيسي على العملية السياسية التي انبثقت عن أول انتخاب لرئيس مصري منذ أيام الفراعنة أتى عبر صناديق الاقتراع وبإرادة الناخبين، وبات العرب والعالم ولأول مرة مشدودون إلى الشاشات لا يعرفون اسم الرئيس المصري القادم، هل هو محمد مرسي أم أحمد شفيق، في مشهد لم يعتد عليه المواطن العربي في انتخابات عربية وكأنه يتابع انتخابات الرئاسة الأمريكية في لحظاتها الحاسمة.

لم يعترف الرئيس التركي بالانقلاب العسكري وأكّد أن الرئيس الشرعي هو الرئيس المنتخب القابع في سجنه بتهم الإرهاب والتآمر على الدولة المصرية قبل أن يحول عليه الحول في القصر الرئاسي.

ويعزو بعضهم خيبة الأمل التركية من الانقلاب المصري هو لتحجيم أحلام راودت القيادة التركية بلعب دور هام في محيطها العربي بعد أن تم إغلاق الطرق عليها من الغرب عبر تلكؤ الاتحاد الأوربي بقبول عضوية تركيا به.

كان نموذج الإسلام التركي يغري الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة باعتباره نموذجاً يحتذى للشعوب العربية والإسلامية كنموذج إسلامي حضاري متمدن يؤمن بنظام الحكم الديمقراطي وتداول السلطة وصديق للغرب ومتصالح معه، بل قد يكون حليفاً موضوعياً.

والتخلي عن باقي الأشكال الحركية للإسلام السياسي والجهادي المعادي للغرب وإسرائيل، لا يؤمن بالدولة الوطنية بل يسعى لخلافة لا تعترف بالحدود ويعمل على بناء هوية لا ترتبط بالأرض وخصوصيات أو ظروف كل منطقة بل هوية إسلامية عالمية.

وبما أن أحداث 11 أيلول 2001 لم يكن قد مرّ عليها أكثر من عقد ولازالت الولايات المتحدة تعاني من آثارها وتضع الخطط لعدم تكرارها، بل كانت استراتيجية الإرهاب السني ومحاربته تقع في سلّم أولوياتها، ويمكن للنموذج السني التركي أن يناكف النموذج التوسعي الإيراني كخلافة شيعية عابرة للحدود الوطنية للدول، وبذلك ينشأ نوع من التوازن في المنطقة.

شكّل الانقلاب المصري في أكبر دولة من دول الربيع العربي، الذي وصل فيه الإسلام السياسي المعتدل لسدّة السلطة ضربة موجعة للأحلام التركية (ويحلو لبعضهم تسميتها بالعثمانية الجديدة) وقيادة قلب العالم العربي والإسلامي بنموذجها، وهو ما يعرف بالقيادة بالنموذج وليس بالطريقة الإيرانية.

وكان انقلاب الجيش المصري على العملية السياسية الوليدة التي أنجبتها ثورة يناير، بداية لما عرف فيما بعض بالثورات المضادة، التي دعمتها دول مهمة بالمنطقة كانت تخشى أن يسفر الربيع العربي عن إحدى نتيجتين لا ثالث لهما، إما وصول الإسلام السياسي إلى الحكم (وقد وصل فعلاً عبر صناديق الاقتراع في مصر وتونس وليبيا)، وبالتالي تصديره لنموذج إسلامي يهدد النظم التقليدية الوراثية في المنطقة، أو إذا نجح الإسلاميون في عدم الاستئثار بالحكم والانقلاب على العملية الديمقراطية، ظهور أنظمة ديمقراطية تداولية وليدة.

أيضاً يخشى الكثيرون من زلزال ذلك النموذج على دولهم.

وقد كانت القيادة التركية تدعم الربيع العربي ولا تخشى من نجاح أي من النموذجين، فلها تجربة ديمقراطية سابقة وبدأت تترسّخ لأي تجربة عربية جديدة، كما أن حزب العدالة والتنمية التركي قدّم نموذجاً لحزب يقوده متدينون محافظون ويتكّيف مع النظام الديمقراطي الغربي الحديث.

وبالضرورة ولذات الأسباب ساءت العلاقة التركية مع دول مهمة في الخليج العربي أهمها الإمارات والسعودية وباتت القطيعة السياسية والحرب الإعلامية هي المسيطرة على المشهد وأخذ الخلاف أشكالاً أخطر، كحروب بالوكالة لدعم طرفين محليين كما حدث في ليبيا.

ويمكن اعتبار أن ما سعّر الخلاف التركي المصري بعد الانقلاب على حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، هو اتخاذ تركيا ومصر موقفين متناقضين من الأزمة الخليجية التي أسفرت عن حصار إمارة قطر عام 2017، حيث كانت مصر من الدول الأربعة (إضافة للسعودية والإمارات والبحرين) التي فرضت الحصار على قطر فيما كانت تركيا إلى جانب الدوحة بكل إمكاناتها بل حتى وصل الأمر إلى إرسال قوات عسكرية تركية إلى الدوحة وإنشاء قاعدة عسكرية لازالت حتى الآن.

لكن لابد من الإشارة إلى أن الخلاف بين تركيا ومصر بقي خلافاً سياسياً، فبعد تسع سنوات من القطيعة، يحقق التبادل التجاري الذي بلغ حجمه 20 مليار دولار بينهما أرقاماً جيدة، وهو رقم جيد إذا علمنا أن البلدين في قطيعة سياسية كاملة.

حدثت في نهايات عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وبدايات عهد خليفته الديمقراطي، صحوة وسيولة في التحالفات السابقة خوفاً من عهد أمريكي ديمقراطي لا يخفي رغبته في العودة للاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس ترامب وبالتالي خشية دول المنطقة من فترة تخادم أمريكي – إيراني جديدة على حسابها، وأيضاً، كان الرئيس الأمريكي القادم في حملته الانتخابية لا يكفّ عن انتقاد كلا من مصر وتركيا والسعودية والإمارات، ويبرز نيّته بالضغط عليها لتحسين أدائها في مجالات حقوق الإنسان والحريات العامة، مما اعتاد الديمقراطيون على اعتباره معياراً لتحديد علاقتهم بالدول حتى لو كانت من حلفاء واشنطن التاريخيين.

انعقدت قمة العلا في المملكة العربية السعودية في 5 كانون ثاني 2021، وحدثت المصالحة الخليجية مع قطر التي انسحبت لمصالحة عتيدة مصرية – قطرية، وتم كسر الجليد في طريق المصالحات التركية مع الرياض وأبو ظبي، بل وتمت تبادل الزيارات على أعلى المستويات وإرساء لعهد جديد يتضمن فصل الملفات والعمل سوياً على المشتركات وتوقيع المزيد من الاتفاقيات التجارية.

وكان متوقعاً أن تشهد العلاقات المصرية – التركية نفس المسار الذي حدث بين تركيا وقطبي الخليج العربي، رغم تشابه أسباب الخلاف الأولية ودواعي تجاوزها.

كانت الرغبة التركية والبرود المصري عنواناً لحالة العلاقات بين البلدين، ورغم مرور عامان على النيّة بتحسين العلاقات الثنائية التي لم تتجاوز الاتصالات عبر أجهزة مخابرات البلدين، لم تؤد تلك المباحثات إلى بناء أرضية لانتقال المحادثات إلى المستوى السياسي.

بل فاجأنا وزير الخارجية المصرية منذ شهر تقريباً، بخبر إيقاف كل قنوات الاتصال الأمنية مع تركيا، نظراً لعدم تحقيق تقدم أو جدوى من استمرارها حتى تنتقل إلى المستوى السياسي.

رد علية وزير الخارجية التركي بنفس السياق أو المعنى، وبدا أن الطرق بين أنقرة والقاهرة مقطوعة إلى أجل غير مسمى والسياسة التركية صفر مشاكل أو حديثاً لا خصومات أبدية في عالم السياسة، لم تجد نفعاً.

ويمكن إيجاز أهم نقاط الخلاف المصرية – التركية بثلاث نقاط رئيسية:

  1. يعتبر ملف إيواء معارضين مطلوبين للقاهرة من جماعة الإخوان المسلمين الموجودين في تركيا من الملفات الشائكة بين البلدين، حيث لم يرضِ القاهرة قيام السلطات التركية بتوجيه القنوات الفضائية الإخوانية بتخفيف حدّة خطابها ولهجتها التي تشنّها على النظام. كما لم تستجب أنقرة لطلبات الترحيل أو تسليم بعض الشخصيات للقاهرة، وذلك لأن القانون التركي لا يبيح تسليم مطلوبين إلى دول تطبق فيها عقوبة الإعدام، وتسليم أحد المطلوبين لمصر، المتهم بالمشاركة باغتيال النائب العام المصري لاقى رفضاً شعبياً داخلياً، كما أن بعض المطلوبين للقاهرة حاصلين على الجنسية التركية وبالتالي أضحوا مواطنون أتراك.. وهو ما عقّد المسألة أكثر، ولوحظ مؤخراً امتعاض أنقرة من القاهرة، حيث سمحت بعقد اجتماع مهم لجناح إسطنبول من الإخوان المسلمين المصريين.
  2. الخلاف الآخر هو ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وهو خلاف عميق لا يتعلق حلّه برغبة البلدين، لأنه سيصطدم باعتراض دول أخرى ومن أهمها اليونان وقبرص (ومن خلفهما فرنسا)، إذ إن أي اتفاق مصري – تركي على ذلك الترسيم سيمنح أنقرة مساحة 20 ألف كيلو متر مربع من المياه الاقتصادية يمكنها التنقيب فيها عن الغاز المتوقع اكتشافه فيها، وتوجد عقبة ليست بالسهلة، وهي أن تركيا لم توقّع على اتفاقية الأمم المتحدة 1982 المعروفة بقانون البحار كمرجعية للتفاوض بل تسعى لاتفاق سياسي ثنائي بين البلدين.
  3. يشكل الملف الليبي نقطة خلاف رئيسية، ليس من السهل تجاوزها.. إذ تدعم القاهرة الجنرال حفتر الذي تسيطر قواته على الجزء الشرقي من ليبيا والمحاذي للحدود المصرية، بينما تدعم أنقرة حكومة الدبيبة في طرابلس المعترف بها دولياً، والتي تتهمها القاهرة بأنها تضم خليطاً من الإخوان المسلمين والتيارات الجهادية، ولأنقرة وجود عسكري مباشر في الغرب الليبي، وهو ما تراه القاهرة وجوداً غير شرعي، كما أبرمت أنقرة مع حكومة طرابلس منذ عامين تقريباً، اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بينهما لا تعترف به القاهرة، وترى أنه غير شرعي وتم إملاؤه على حكومة طرابلس.

وللقاهرة عتب شديد على تزويد حكومة عدوها في إثيوبيا، إيبي أحمد بمسيرات بيرقدار حالت دون هزيمته في الحرب الأهلية الأخيرة.

كما أن القاهرة، التي أنشأت منصة غاز شرق المتوسط لتكون مركزاً رئيسياً لتصدير الغاز إلى أوروبة، ترى في أنقرة منافساً لها لسعيها لنفس الهدف، وبالتالي، القاهرة ليست راغبة بضم أنقرة لتلك المنصة المصرية، وفي اليوم التالي لحدوث المصافحة بين الرئيسين، هرع وزير الخارجية اليوناني إلى القاهرة للاطلاع على الخطوات المقبلة نظراً لما يمثله التقارب المصري – التركي من خطر على بلاده.

أنا أرى أن الأسباب المصرية للتطبيع مع أنقرة غير متوفرة، بل إنها تفضل قبل ذلك مراقبة نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة في تركيا، وبالتأكيد ترغب برؤية رئيس جديد وحزب جديد في الحكم، ولا تفضل إعطاء هذه الورقة للرئيس أردوغان لاستعمالها داخلياً، ويبدو أن فصل ملفات الخلاف عن بعضها ليس مجدياً، بينما يمكن تفسير سرعة أنقرة للتطبيع، برفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين وتحقيق خرق إقليمي للرئيس التركي، يستغله بإعادة انتخابه لفترة رئاسية قادمة نظراً لما لمصر من وزن إقليمي.

ومن غير المتوقع قبل الانتخابات التركية القادمة، حدوث أي تجاوب مصري مع الرغبة التركية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني