
بصمات
وحدها الكلمات بحنانها الأبيض تستطيع أن تمر على سواد ذلك الجدار فيصير صفحة من كتاب سأحكي فيه لأمي عنك…
كلمات كتبها شاعر شغل تلك الزاوية المهملة التي قبعت فيها عشر سنوات. وأخذت عنه كذلك فسحة الجدار المسود.
أرسم في زاوية الجدار طيوراً تهاجر ووراءها قرص شمس يغيب، الحقيقة لست متأكداً ربما يكون قرص الشمس أمامها، لا شيء يمكن أن نراه على حقيقته هنا، حتى الكلمة التي تهرب من سربي تشبهني..
تقول الكلمة سبحان من جعل الجدار سماء لأجنحتي..
تملكني كلمات الشاعر فأتخيل شكله، يبدو لي بعينين سوداوين، وفم منتفخ الشفتين، وتجاعيد غائرة في الجبهة.
لا أدري أي شيء دفعني لآتي إلى هنا مع سيل من الناس يتفرجون على قهرنا، أو يبحثون عن بقايا لأحبتهم، او صحفيون وقحون يريدون أن يرقصوا على آهاتنا.
تتراكم في الزوايا حشود من الأنفاس، والروائح التي تركتها أجساد الزملاء الذين مروا ومضوا، كانوا يضحكون قليلاً… ربما لم يضحكوا أبدا، فقط حين تعثر السجان مرة بقدم سقطت من جثة تيبست لأيام ولم نجرؤ على الاقتراب منها كانت جثة عبد القادر، قدور كما كنا نتهامس باسمه سرا، كان ماهرا في إلقاء النكات بصوته الهامس حين يخلو الجو من أنفاس السجانين العفنة.
وقدور لم يرض أن يمضي دون أن يترك لنا بسمة أخيرة.
في وسط الجدار رسم الفتى النحيل تقويما بمكعبات خلناها نافرة أول الأمر، عندما بدأ برسمها لم يحرك جسده كان الوقت ثقيلاً لزجاً مثل رائحة البول التي نتنفسها كل شهيق، لكن عندما انتهى وصار يشطب اليوم تلو اليوم لم نعد نشم رائحة البول، كان جبل المكعبات يتراكم وكنا نتوق لأن ننظر إليه وهو يصل سقف الزنزانة الذي لم نره إلا نادراً.. حلمت كثيرا أن أرسم عليه شمساً، وأكتب اسمي، لكن أي هبة إلهية ستكون تلك حين يقرأ القادمون اسمي، وأنا لست موجوداً.
مات قدور الفتى النحيل قبل أن يصل المكعب إلى نصف الجدار، صرفت النظر عن كتابة اسمي وعن تلك الشمس.
كيف يعودون اليوم إلى تلك الزنزانات، يتفرجون على قهرنا، أنا عدت لآخذ ما تبقى من أوراق دسستها في ثلمة الجدار الذي انحشرت بجانبه كل تلك أعوام، لا أعرف كيف وجدتها، قد يكون العكس هي وجدتني، قالوا لي إن الشاعر الذي كان في ذلك المكان قبلي يهمس لهم أحياناً ببعض الأبيات، وكان لديه دائماً ورق وقلم، مات بالسل، قبل دخولي بيومين، وورثت أنا مكانه، وجداره والثلمة والأوراق..
قالت النظرات التي انطبعت على الجدران كنتم تبددون وحشتنا، والآن جاء دورنا لنشتاق، بدت الشمس ساطعة تملأ السقف، كنت واثقاً أنني لم أرسمها، طويت الأوراق التي احتضنت بحة صوت الشاعر، ورائحة بول معتق، وضحكة قدور ودموع مرة مؤرخة بتقويمه، وأعطيتها للصحفي الذي يبحلق في وجهي، ووليت هارباً خوفاً من أن يكتشف أنني أحد عتقاء هذا الجنون.