fbpx

الوجه السياسي الراهن لثقافة التخلف

0 214

المعرفة هي الحاضنة الأساس لأي بنية ثقافية وعلى أساسها تبنى الثقافات وتتمايز وتتحدد الهويات وطبيعة الشعوب ومكوناتها وخاصة السياسية منها، فالحاضنة المعرفية المنتجة والقائمة على الحريات الفردية والعامة، وحرية حركة العقل وفق قوانين ودساتير تحمي الإنسان وتتيح له ممارسة حقوقه والقيام بدوره الذي يشكل الحجر الأساس في الحياة العامة والخاصة بحيث تنتج آلية معرفية وذهنية سليمة وصحيحة تستخدم على الصعد الحياتية كافة، وبطرق تخدم غرض المجتمع وثقافته وبالتالي غرض الشعوب وتدفع باتجاه التقدم والتطور.

أما الحاضنات المعرفية القائمة على الاستلاب والإقصاء وتحييد العقل وتجميد حركته أو حرفها عن مسارها هذه منتج الاستبداد والتخلف.

من هنا نقول: إن الثقافة السائدة في بلدنا لا تختلف كثيراً من حيث المضمون ومن حيث الاستخدام المعرفي لما هو مطروح في هذا الحقل وخاصة الذين مارسوا السياسة من بوابة الأيديولوجيا حيث أصبحت أقرب إلى الدين كما أصبح الحزب أقرب إلى الطائفة وبنيت علاقاتهم كما تحددت صراعاتهم وصداقاتهم على هذه الأسس حيث ارتكزت على امتلاك الحقيقة وتخوين الآخر وتقديس النصوص ومنتجيها والحاكم والأمين العام وأصبحت العلاقات ضمن إطار الحزب الواحد قائمة على عصبية ابن خلدون.

في بلادنا لم تكن الأهداف السياسية التي رفعتها كل الأحزاب أكثر من رغبات، يعملون على تحقيقها بثقافة ماضوية أنتجت في مرحلة تاريخية مختلفة، ولم يتبادر إلى الذهن أن ما نرنو إليه يحتاج إلى ثقافة جديدة، إلى بنى فكرية وسياسية ومعارف حياتية منتجة من واقعنا تتناسب مع ما نرغب وتشكل حاضنة معرفية وأدوات مفاهيمية منسجمة مع الواقع من جهة ومع الشعارات المرفوعة من جهة أخرى.

ما جرى على الأرض عكس ذلك، القوميون على تعدد أشكالهم أخذوا النظرية وعملوا على تفصيل الواقع على مقاسها قسراً، والشيوعيون لم يأخذوا حتى بقول لينين بقطع السلسلة من أضعف حلقاتها واختصار المرحلة البورجوازية إلى شهور من شباط 1917 إلى تشرين الثاني من نفس العام، عندنا ألغوها تماماً وشنوا عليها وعلى الرأسمالية حرباً شعواء من الشتائم وليس الفكر (أجاد ممدوح حماده في توصيفهم في مسلسل “الخربة”) وساعدهم في ذلك اليسار القومي.

إن هذه الأحزاب في مجموعها كانت امتدادا لما جرى في العالم غربه وشرقة ونقلاً وليس صناعة، لذلك غلب عليها الطابع العشائري الطوائفي التجميعي وخاصة أنهم جميعاً أخذوا بمقولة الجماهير الكادحة والمفاهيم الطبقية والثورية والانقلاب الجذري و… إلخ من هذه المقولات الحماسية في إطار بنى مجتمعية متخلفة كان من الطبيعي أن تصل إلى ماهي فيه الآن من ترييف للفكر وتفكيك للبنى وانحسار للفاعلية والصراعات البينية وغيرها.

وبدلاً من أن يشكل هذا الوافد المعرفي أو هذا التقدم الذي أنتح في الغرب، خاصة رافعة حضارية نعمل على الاستفادة منه ونرتقي به ومعه، ما حصل كان العكس تماماً، وذلك يعود إلى الأسباب المعرفية والثقافية التي كانت وما زالت تقزم أي فكر وتمسخه حتى يتناسب مع مستوى المعارف السائدة القائمة على نفي الآخر بدلاً من التكامل معه، والعنف بدلاً من الحوار الذي يعتبر أرقى أشكال التواصل الاجتماعي، والاقتتال والتجارب بدلاً من السلام والتعاون والتعاضد، والتوافق على مطلق مشترك جامع، بدلاً من تعدد المطلقات المانعة للعمل المشترك، وبناء الوطن والحفاظ على وحدته بدلاً من تهديمه و تقسيمه، والعمل على حل الأزمة وبناء ذات وطنية بدلاً من أن نكون جزءاً منها وامتداداً لأجندات دولية وإقليمية.

إن الواقع الذي نعيشه الآن في سوريا والذي يفترض أن تكون قوى التغيير والتطور والتقدم قوى باعثة للأمل ومحفزة للنشاط والعمل.

لكنها وبكل أسف سلكت درباً مختلفاً، حيث لم تستطع أن تتميز عن النظام، وأن تشق طريقاً جديدة، وبنى معرفية وسياسية أكثر صدقاً وتعبيراً عن المصالح الوطنية والإنسانية ومعاناة الشعب، الذي يفترض أنها تمثله وترعى مصالحه. وهذا ما يدفع لليأس وليس للتفاؤل، حيث أصبحت من بنية النظام في معظم الأطر حتى فكرياً ومعرفياً. وهي بذلك تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، لأنها هي المعنية وهي من تصدت لعسف النظام وفساده واستبداده، وهي من رفعت شعارات التغيير الديمقراطي والحريات العامة والفردية وهي قوى الربيع العربي، وبدلاً من التقدم في هذه الأطر أصبحت جزءاً من الأزمة وعقبة أمام خلق أي بنى جديدة فكرية سياسية تتناسب مع طبيعة المرحلة المنافية للعنف، العاملة بالأشكال المدنية التي تقوم على سلامة السلم الأهلي وصيانة القضايا الوطنية ونموها وتطوير بناها. والأخذ بقوة الكلمة التي تعتبر السلاح الأمضى، إذا أعدت إعداداً سليماً وإذا ما توفر لها الشروط المناسبة والأداء السليم من الحوار والثقافة وتشكيل البنى اللازمة لإنتاجها. من مؤسسات واتصالات لبلورة رؤية معرفية وثقافة جديدة تتجادل وتتكامل مع مثيلاتها إقليمياً وعالمياً.

إن الساحة السورية غنية وتمتلك من المؤهلات التي تمكنها من القيام بمثل هذه الأعمال الذي نحن بأمس الحاجة إليها.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني