أشرقت شمس الله، شمس الحرية
لابد أن أنشر هذه القصة التي كتبتها في عام 2000 حين لم يكن أحد يجرؤ على تناول ملف المعتقلين.
كانت أحداثها بناء على شهادة من أحد الناجين من المسالخ البشرية فوثقت شهادته بهذه القصة
رحم الله روحه الطاهرة، فقد استشهد منذ شهرين في سجون النظام البائد رحمه الله وتقبله. المهندس عبدالله ماضي
ألقاني صاحب اليدين الفولاذيتين من أعلى درج ما، انزلقت وتدحرجت الى أسفل الدرج، شعرت بلزوجة تغطي ما تم هتكه من ستر جسدي فقد مزقوا ملابسي وبقي قليل منها لا يستر معظم أعضائي، شعرت بأيد تنهضني وتحملني ثم تنزع عني عصابة عيني السوداء التي عصبوني بها عندما تلقفوني من بوابة كليتي وأحاطوا بي بصمت شرس همس أحدهم باسمي مسبوقا بكلمة (الطالب المدعو) ولم ينتظروا إجابتي فلا قيمة لها ثم ألقوا بي في سيارة مغلقة عوت كذئب شرس وانطلقت تنهب الطريق وأنا ملقى على أرضيتها تتقاذفني جدرانها الحديدية مع تعرجات الطريق ومطباته.
وعندما توقفت السيارة سحلتني أيدٍ قاسية ونزلت بي درجا طويلاً شعرت أنه لن ينتهي إلا بخروج روحي، كان قلبي يتقافز في صدري كطفل لسعته عقرب.
التقطتني كفين مصنوعتين من فولاذ حتماً فلا يمكن ليد بشرية ان تكون بهذه الصلابة والبرودة، ولولا ملمس جلدها على جلدي لما عرفت للحظة أنها لبشري، هصرت هاتان اليدان رأسي وتركتاني كخرقة مدعوكة بالطين، المشكلة أن لا أحد يتكلم ولا أحد يسألني شيئاً، لا أحد يهمس ولو مجرد همسة، حتى عندما فتحت فمي لأنبس بأي حرف جاءتني صفعة فولاذية خيل إليّ معها أن لساني قد قطع وأني لن أتكلم مجددا، المهم أن عقلي بقي صاحياً ويحاول استيعاب ما يجري حولي.
الآن تلتقطني مرة أخرى أيد أشعر أنها دافئة رغم لزوجتها، تسارع الأيدي لإزاحة القطعة السوداء عن عيني، لكن، لا فرق.
غرقت بفيضان من العتمة، اخذت أمد يدي وأتحسس ما حولي، تلتقي يدي كل مرة بيد جديدة أكاد أعرف صاحبها، هم مثلي إذاً، كنا جميعا نخوض في ماء لزج بارد يغمر أرجلنا الى الكعبين، رائحة القذارة تزكم أنفي، همس لي أحد قرب أذني وشعرت بفحيح صوته وحرارة انفاسه (كانت هي الحرارة الوحيدة التي شعرت بها منذ اقتيادي)، همس: “لا تخف ستعتاد كل شيء هنا، طالما أنك لم تمت بين أيديهم ووصلت إلى هنا فستتحسن أمورك”.
وعمل عقلي بسرعة متسائلاً: “تتحسن أموري، بأي شكل؟”.
اعتادت عيناي الظلام فميزت أشباحاً كثيرة تشبهني مجرد ظلال لم اميز ملامحها ولا ملابسها، الظلمة تطبق على المكان يتسرب ضوء خفيف باهت من مكان ما لا أعرفه فيكشف مقداراً قليلاً فقط لا يسمح لاحد ان يميز الآخر، اقتادني صاحب الصوت الى زاوية بعيدة في عمق الغرفة، حيث كانت الأرض جافة قليلاً، أجلسني مستنداً إلى جدار ما لسعتني برودته في خاصرتي ثم جلس الى جواري صامتا شعرت بأنفاسه تتلاحق وصدره يعلو ويهبط يكاد ينفجر، اقترب مني شبح لرجل هزيل قصير القامة، أفسح له صاحبي مكانا بجواري وبدا بأن بينهما تفاهما من نوع ما، وكأن هذه الطقوس يقومان بها بدقة مع كل وافد جديد، الأمر الذي أربكني ان الرجل الضئيل الجسم جلس مقرفصاً أمامي، تناول يدي وبدأ يرسم عليها بإصبعه، لم أتبين أنها رسومات بادئ الأمر ظننتها حروفاً، لكن مع إصراره وانشداهي همس صاحبي الأول في أذني مرة أخرى: إنه يرسم أشكالاً من حياتكم هناك في الأعلى، للحظة غرقت بالارتياح لملامسة دفء أنفاسه لأذني ومؤخرة رأسي، ثم استجمعت تركيزي على ما يرسمه على يدي، لم أفلح إلا في النهاية فقد رسم دائرة ثم أخذت إصبعه تتنقل على أطرافها وترسم خطوطاً طويلة طويلة، وكأن أفقاً ما انكشف أمامي فرأيته يرسم شمساً ويمد أشعتها كثيراً، عاد الرجل الذي إلى جواري ليهمس وتتلافح حرارة أنفاسه على رقبتي (شعرت للحظة أني اشتقت لهذا الدفء)، همس: لقد فقد عقله هنا، كلما جاء وافد جديد سأله: هل ماتزال الشمس تشرق عندكم، منذ شهرين فقد القدرة على النطق فأخذ يرسم على أكفنا ما يريد أن يقول، شعرت بأمعائي تكاد تخرج من فمي، ربما سأصير مثله إن بقيت هنا زمناً آخر، فجأة قفز الجميع من أماكنهم واختلطت حركاتهم بجنون مسعور، يتحركون يمنة ويسرة ويتداخل بعضهم في بعض، صرخ أحدهم انتبهوا، الآن، تيااار وسرى تيار كهربائي لحظات هز أجسادنا هزاً عنيفاً، وقعت الأجساد فوق بعضها متراكمة كأكياس نفاية، كان هذا آخر ما رأيته، فقد سقطت في دوامة من عواء، أفقت بعدها والصمت يلف المكان وعادت الظلمة تنحسر قليلاً عما حولي فأرى أجساداً معلقة في الهواء وقد شبحت وامتدت أيديها إلى جانبها وكنت مثلهم مصلوباً.
دفق سائل مرٌّ من جوفي إلى أعلى صدري وانطلق من فمي عواء يشبه عوائهم لكنه بحروف مقطعة، ياااا شمس الله، متى ستشرقين؟.