المسار الرباعي: الشروط التركية الأربعة والتصعيد الروسي في إدلب
كان نائب وزير الخارجية الروسي وممثل الرئيس الخاص للشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف وهو يعلن عن التوصل لمسودة خارطة طريق للمسار الرباعي، كملاكم من أبطال العالم للوزن الثقيل كَبُرَ بالعمر وخارت قواه ولم يَعُدْ مرهوب الجانب.
تحدث نائب الوزير عن مسودة وتمنى على الأفرقاء مناقشتها في الجولة الـ 20 لمسار أستانة التي عُقدت يومي 20 و21 من شهر حزيران في العاصمة الكازاخية.
يُدرك الروس أنّ وسيط القوة الذي تمكنوا من إنشائه في سورية بعد تدخلهم العسكري المباشر إلى جانب ميليشيا النظام، لم يعد كما كان، حيث كانت القوة الروسية هي الرافعة لكل مسار أستانة الذي تم ابتكاره على الأرض والذي سرق ملفات مهمة من مسار جنيف الأممي، سرق ملفات كملفات اللاجئين والمعتقلين وهيئة الحكم الانتقالي وحاول مصادرتها من المسار الدولي وقرار مجلس الأمن.
كان مسار أستانة يحظى ببعض القبول والرضى الدولي كونه كان مساراً عسكرياً صرفاً، ولكن الغطرسة الروسية أبت إلا أن تحوله لمسار سياسي غايته إفراغ أي حل سياسي من مضمونه وتثبيت أمر واقع على الأرض أو حل روسي يكون فيها القيصر هو الخصم والحكم في قضية الشعب السوري.
واختزل المسار السياسي كله بلجنة دستورية عقيمة. لم تُنجب مبدأً دستورياً واحداً رغم جولاتها الثمانية السابقة، وفُتحت أبواب جهنم على القيصر الروسي من جهة الغرب وبدأت القوة والهيبة الروسية تتآكل شيئاً فشيئاً، وبدأت تُلقي بظلالها على الملف السوري تحديداً، وبدأ اللاعبان الإقليميان يُجهّزان نفسيهما للانقضاض على الحصة الروسية ويحاولان زيادة حصتهما، كان الأتراك والإيرانيون عينهم اليمنى على الصراع الكبير في أوكرانيا والعين اليسرى على سوريا والتي شاءت الجغرافيا السياسية ولعبة المصالح أن تكون سوريا وأوكرانيا توأماً غير سيامي.
بدأ وسيط القوة الروسي بالانهيار تدريجياً في سوريا فلم يعد لموسكو الكلمة العليا في الملف السوري، وتَنّمر عليها الشركاء في أستانة حتى مختار حي المهاجرين بدمشق لم يَعد يخشاها بذلك القدر المعروف سابقاً، حيث لم يعد يُشحن إلى حميميم أو موسكو سراً للقاء المعلم الأكبر بل تم استقباله كرؤساء الدول مع سجادة حمراء وحرس شرف وزيارة لضريح الجندي المجهول في زيارته الأخيرة لموسكو، وبات يضع سقوفاً عالية على القيصر الروسي بشأن مبادرته لإصلاح ذات البين بين أنقرة ودمشق.
أحد عشر شهراً مرت منذ إطلاق الرئيس الروسي مبادرته بين أنقرة ودمشق وهي تسير سير السلحفاة.
بالطبع يرغب الروس بانتزاع الأتراك تماماً إلى جانبهم في سوريا (وخارج سوريا لاحقاً) عَبْرَ اللعب على الورقة الكردية ودغدغة أحلام أنقرة بمحاولة التخلص منها مع إدراك أنقرة اليقيني أنّ الذي يستطيع فعل ذلك هو الأمريكان وليس الروس.
رحّب الأتراك بالمسار الرباعي إعلامياً لكن دون خطوات على الأرض تُترجم جزءاً مما يبدو في الإعلام من حماسة ورغبة، كانوا تحت سيوف المعارضة والجمهور التركي في حمأة معركة انتخابية مصيرية، وكان تُرسهم الذي يردون بها سيوف المعارضة ورماحها هو المزيد والمزيد من التصريحات التركية العاشقة للأسد، وقبل أن ينجلي غبار تلك المعركة لم يشأ الأسد والإيرانيون تقديم أي شربة ماء أو كسرة خبز للقيادة التركية بل راهنوا على فوز أصدقائهم من المعارضة التركية، رغم علمهم بالدعم غير المحدود للرئيس الروسي لصديقه الرئيس التركي في تلك المعركة.
كان الروس يُدركون أنّ مسار أستانة القديم انتهى عمره، إذ تمّ ضمّ الأسد للمسار الجديد باعتباره جزءاً من الحل وليس المشكلة كما في المسار القديم حيث كانت معارضة أستانة السورية تحضر معه.
يبدو أن الاجتماع الأخير في أستانة قد فشل فشلاً ذريعاً، فلم يستطع الروس إغلاق كامل ملفاته والانطلاق بقوة للمسار الجديد، وبالطبع كانوا يدركون حقيقة الموقف التركي حيث بدؤوا بالتصعيد قبل المؤتمر وزاد التصعيد بعده وبواسطة الطيران الروسي مباشرة وكانت الذروة بارتكاب مجزرة جسر الشغور مُهدّدة التركي بتنفيذ القراءة الروسية لتفاهمات 5 آذار 2020 بين بوتين وأردوغان في موسكو، بتسليم الطريق M4 الخاضع للنفوذ التركي وتهديد الأتراك عبر زيادة التصعيد بدفع موجات جديدة من اللاجئين إلى الشريط الحدودي والقضاء على أحلام أنقرة ووعود الحزب الحاكم والرئيس الفائز بتنفيذ وعودهما للناخب التركي بالسعي لعودة طوعية للاجئين سوريين إلى بلادهم.
بالطبع لم يتراجع الأتراك (وأظنهم لن يتراجعوا) متراً واحداً إلى الخلف على الأرض ولن يقدموا هدايا مجانية خاصةً أنّ كل متر مربع مما تبقى يَمُسّ صميم الأمن القومي التركي وخاصةً أنهم مع حلفائهم السوريين على الأرض هم الأقوى عسكرياً، ويستطيعون الدفاع عن أماكن تواجدهم بل قد يُغريهم اختلال موازين القوى للاندفاع جنوباً إلى حيث وافقت تفاهمات أستانة السابقة 2018 على عدم دخول قوات النظام للأماكن الواقعة خلف نقاط المراقبة التركية الـ 12.
ترغب موسكو بتحقيق إنجاز ميداني على الأرض تُجَيّره كسباً لها في زمن خسائرها الكبرى في أوكرانيا بل في روسيا نفسها وتُهديه إلى حليفيها الإيراني والأسدي كعربون على بقايا قوة يمكنهم المراهنة عليها في النيل من خصمهما التركي.
إيران ترغب كثيراً بعودة طريق الـ M4 الى سيطرة قوات النظام وبالتالي تأمين طريق هام يربط وجودها في شرق سوريا مع حلب وصولاً لميناء اللاذقية الواقع تحت سيطرتها بشكل كامل، لكنها في الوقت نفسه غير قادرة على الزجّ بقوات أرضية كافية واستنزافها هناك خاصة أنّ معاركها الكبرى ومصالحها الإستراتيجية في شرق الفرات، خاصةً بعد توارد أنباء عن تصعيد مُرتقب من جانبها للضغط على القوات الأمريكية للانسحاب من سوريا، أو التصدي لما يُروّج له عن عزم واشنطن وتحضيراتها للقيام بعمل عسكري غايته إغلاق الحدود السورية العراقية وقطع التواصل بين ميليشيات الحرس الثوري في العراق عن ميليشياتها في سورية ولبنان وبالتالي عملياً إضعاف قدرات الحرس الثوري في الإقليم، كما أنّ الميليشيا الإيرانية ترى مصلحة كبرى لها بتعزيز تواجدها في دمشق وجنوباً باتجاه الجولان والحدود الأردنية وغرباً تأمين الطرق الواصلة إلى لبنان من ريف دمشق والقلمون، ولا مصلحة كبرى لها في شمال حلب وإدلب.
الموقف الأمريكي الهام والمؤثر في الملف السوري داعم للموقف التركي بعدم إعطاء عدوها الروسي أي مكسب في سورية ولو كان معنوياً، وعدم دفع أيّ دم في عروق نظام الأسد التي تعمل على عزله وإضعافه.
وبالطبع الأتراك الذين يتواجدون بقوة في إدلب لا يمكنهم التفريط بالحواجز الجبلية الطبيعية التي تحجز خلفها ملايين النازحين، ولا يرغبون بوصول الميليشيا الإيرانية إلى جوارها والتمركز بالسلسلة الجبلية التي تُشرف على أراضيها منعاً للفوضى وسهولة إيصال المخدرات وتمركز ميليشيا تركية علوية فيها من أنصار معراج أورال واستقدام بعض خلايا الـPKK ممن يتامرون بأوامر دمشق وطهران لاستعمالهم كمخلب للطعن بالخاصرة التركية عند الحاجة.
بالطبع الإيرانيون غير متحمسين لنجاح المسار الرباعي خشية من نفوذ تركي ناعم في سورية مرغوب من الجميع مقارنة بنفوذ إيراني مكروه من الغالبية، فالخشية الإيرانية من القوة الناعمة التركية هو في صلب تعطيل إيران أو عرقلتها للمسار الرباعي وتفضيلها للمسار العربي عليه لفك عزلة النظام.
لذلك قد يكون التسريب التركي عبر صحيفة “يني شفق” المقربة من الحكومة والتي نقلت عن مصدر وصفته “بالرفيع المستوى” الشروط التركية الأربعة للتطبيع وهي تتضمن تأمين الحدود وعودة اللاجئين ودستوراً جديداً وانتخابات عامة، حيث قالت إنّ الوفد التركي في أستانة سَلّم هذه الشروط لوفد نظام الأسد، باعتبارها “ضرورية لبناء الثقة”.
وقال المصدر لصحيفة يني شفق أنّ الوفد التركي ينتظر ردّ وفد نظام الأسد عليها حيث لم يعطِ نظام الأسد أي ردّ عندما سأله الوفد التركي بعد اقتراحه تأسيس آلية تنسيق عسكرية رباعية للقيام بعمليات مشتركة ضد مواقع الإرهابيين بمعنى محاربة التنظيمات التي تُصنّفها أنقرة إرهابية. ولم يجاوب وفد الأسد على سؤال تركي آخر من سيضمن أمن المنطقة؟ وهل تستطيعون أن تسيطروا عليها وتضعوها تحت إشرافكم في حال انسحاب القوات التركية من شمال سورية، بمعنى هل تستطيع قواتكم الانتشار وحماية حدود طولها 1000 كم.
وأوضح المصدر للصحيفة التركية أنّ الجانب التركي طلب من وفد نظام الأسد “تقديم ضمانات مكتوبة بشأن العودة الآمنة للاجئين”.
وأضاف المصدر أنّ الوفد التركي في أستانة “اقترح عودة السوريين إلى مناطق آمنة يتم إنشاؤها لهم أولاً ومن ثم يمكنهم العودة لاحقاً إلى مناطقهم الأصلية”.
والمطلب الثالث لتركيا يتعلق “بالعملية السياسية وإدارتها بطريقة صحيحة. وصياغة دستور جديد” والشرط التركي الرابع هو “إجراء انتخابات عامة بمشاركة جميع السوريين في أنحاء العالم”.
بالطبع يَعتبر الروس ونظام الأسد أن الشروط التركية هي شروط تعجيزية تُعبر عن ارتياح أنقرة وعدم استعجالها بعد انتهاء الانتخابات.
لن يضطر الأتراك لتعديل شروطهم أو تليينها على الأقل خاصة مع تفاقم العوز الروسي لنافذة أنقرة التي تؤمن لها الأوكسجين اللازم للتنفس من تحت الماء الأوكراني، وعدم قدرة موسكو على الضغط أكثر على تركيا والاكتفاء بالتصعيد الذي تم، وصحوة روسية من أوهام القوة العظمى لتدرك حجم تأثيرها وقوتها وفرض إرادتها على الأرض.
ربما لم يعد الروسي كما كان قبل دخوله في الحرب على أوكرانيا ، لكنه استطاع عبر منصة أستانا وتحت تغافل أو تجاهل أو تغاضي أمريكي أن يبتلع القرار 2254 أو على الأقل أن يعطل مساره حتى الجولة العشرين الأستانية.
وهنا لنا أن نتساءل:
هل هو تفوق سياسة الروسي على نظرائه في الملف السوري ؟
أم هو تجاوز لما كان متفقاً عليه بين الأطراف المتدخلة ؟
أم أنه كما يقال في السياسة أن الحرب خدعة ؟
وبغض النظر عن الإجابات
فقد استطالت معاناة السوريين داخلاً وخارجاً وهم -فقط هم- من يدفعون الثمن الأغلى من حياتهم .