fbpx

الكتلة الديمقراطية الصلبة في سورية.. دور تاريخي يستحق الأولوية السياسية

0 49

ليس هناك مبالغة إن قلنا إن تطور سورية وانتقالها السياسي العميق إلى دولة مواطنة ومؤسسات ديمقراطية لن يتمّ في حقيقة الأمر بغير توفّر شروطٍ موضوعية وعوامل ذاتية، ولعلنا حين نذكر العامل الموضوعي للانتقال، فإننا نحدّد ذلك بدرجة تطور المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وهذا يعني إن هناك ضرورة تاريخية لهذا الانتقال السياسي، لإنه يسمح بفتح آفاق تطور القوى الاجتماعية وتعميق التنمية المستدامة.

أما العوامل الذاتية للانتقال السياسي في سورية فهي تنحصر بقدرة القوى الديمقراطية على تشكيل إطار عملها السياسي السلمي، أي باختصار قدرتها على بناء الحامل السياسي لمشروع الانتقال السياسي نحو دولة مدنية ديمقراطية تعددية.

الحامل السياسي لبناء دولة مواطنة ليس مجرد فكرة فانتازية تراود ذهن النخب الثقافية أو المجموعات السياسية المتأثرة بتجربة دول الديمقراطيات الغربية، بل هو ضرورة تاريخية في عصر تحوّل العالم فيه إلى “قرية صغيرة” كما قال هذه العبارة ذات يوم الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب.

الحامل السياسي لهذا المشروع هو كلّ القوى السياسية الديمقراطية والوطنية والقوى الاقتصادية والاجتماعية الواسعة التي يتحدّد تحقيق مصالحها مع بناء دولة ديمقراطية تداولية.

ويمكن القول إن مكونات الشعب السوري المختلفة لها مصلحة بهذا الانتقال، فهي تريد الانتقال من مناخ الاستبداد السياسي إلى مناخ الحريات السياسية والاقتصادية، وهذا يتحقّق عبر إطلاق حق تشكيل الأحزاب والتحالفات، وعبر المبادرات الاقتصادية والاجتماعية والفر دية. هذا الانتقال يشكّل لديها فضاءً لتطور المجتمع والدولة على كلّ الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية، هذا التطور يعيد بالضرورة إنتاج البنى الاجتماعية نتيجة ذلك التطور في كل مرحلة من مراحله.

سورية التي خضعت لأكثر من نصف قرن إلى نظام استبدادي فظيع، تريد الخروج من حلقة الاستبداد، لا بل تريد أكثر من ذلك، فهي تريد منع عودة الاستبداد السياسي من جديد، سيّما وإن البلاد لا تزال في وضع كارثي على كل مستويات الأوضاع العامة.

الشعب السوري الذي خسر مئات آلاف الشهداء ومثلهم من الجرحى، وعشرات آلاف المفقودين والمختفين قسراً، يريد أن يجعل شعاراته الأولى ومطالبه الأساسية حين فجّر ثورته السلمية برنامج عمل ملموس، فلا تزال الشعارات الأولى للثورة قاعدة حقيقية للوصول إلى بناء دولة مواطنة وحريات.

وفق هذه الرؤية الملموسة، تبدو الحاجة ماسّة إلى بناء “كتلة سياسية ديمقراطية” واضحة البرنامج السياسي، هذه الكتلة موجودة في حالة تشظٍ كبير، فهي تنظيمياً لا تزال عاجزة عن إيجاد مربع تحالف فيما بينها، عبر تشكيل إطار عمل سياسي وطني لها.

كان التشظي حالة طبيعية في ظروف الجزر السياسي التي عاشتها القوى والأحزاب الديمقراطية نتيجة القمع السياسي والأمني الشديدين، فالجزر سمح بتشكّل المجموعات والحركات والأحزاب الصغيرة والنخبوية غير القادرة على التغيير في ظلّ بناها التنظيمية الضعيفة.

سقوط النظام لم يكن نتيجة مباشرة لقدرة هذه الأحزاب النخبوية، بل أتى ضمن معادلة توافقية داخلية إقليمية دولية، بعد أن تحوّل نظام الأسد إلى بؤرة خطيرة تهدّد الأمن والسلام الإقليمي والدولي، بسبب تحوّله إلى مصدر لتهريب الأسلحة والمخدرات دولياً، إضافة إلى سجلّه الإجرامي الهائل بحق الشعب السوري وشعوب المنطقة.

هيئة تحرير الشام التي كانت أكثر القوى تنظيماً وفعالية وانضباطاً عسكرياً وأمنيّاً لتولي مقاليد مهام السلطة الانتقالية، قد تكون وقعت أسيرة فكرة إنها تستطيع إنجاز مهام هذه المرحلة الانتقالية بكوادرها والموالين لأيديولوجيتها وفكرها السياسي، وهذا باعتقادنا خطأ رؤية سياسية، فسورية هي أوسع من تشكيل اللون الاجتماعي والديني والطائفي الواحد، وبالتالي يجب أن تشارك قوى الطيف السياسي والاجتماعي المدني في إنجاز مهام المرحلة الانتقالية على قاعدة دولة المواطنة التشاركية.

إن وجود كتلة سياسية ديمقراطية ضرورة لإنجاز مهام هذه المرحلة، وهذا يتطلب توفر مناخ تشريعي انتقالي “الإعلان الدستوري”، وقوانين تشريعية مؤقتة صادرة عن برلمان سوري مؤقت، يشمل كل الطيف السياسي والاجتماعي السوري، وهذا لم تقم به حكومة العهد الجديد، حتى إن الأخيرة لم تحاول أن تشرعن سلطات المناطق الإدارية في سورية عبر انتخابات الإدارة المحلية مما يسمح للناس اختيار من يدير شؤونها الحياتية في كل المجالات الاقتصادية والصحيّة والتعليمية والاجتماعية.

إن وجود كتلة سياسية ديمقراطية صلبة ليست مسألة رغبوية لدى هذه الجماعة أو تلك، بل هو حاجة هامة لمنع الهيمنة على القرار الوطني سياسياً واقتصادياً بصورة فئوية.

الكتلة الصلبة معنية بإعلان مبادئ عملها السياسي السلمي، والتي يجب أن ترتكز على الحاجات الأساسية لاستقرار سورية، هذا الاستقرار غير ممكن على المدى القادم بغير وحدة البلاد، ووجود إعلان دستوري شفاف يقر بالتعددية السياسية وحريات الإعلام والصحافة، ويسمح بنشاط علني لقوى المجتمع الأهلي والمدني، وصولاً إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية.

هذه الكتلة الديمقراطية الصلبة ليست كتلة معادية لسلطة الحكومة الانتقالية، ولا يمكن أن تكون كذلك، بل هي كتلة يمكن أن تعمل بموجب الضغط السياسي والشعبي السلمي، لترسيخ دولة المؤسسات القانونية، فهي في الواقع تعبير صريح عن مصالح سياسية واقتصادية وطنية لفئات المجتمع المختلفة على قاعدة وحدة الدولة وتداول السلطة.

لذلك تبدو مهمة إنجاز ولادة كتلة ديمقراطية صلبة مسؤولية دعاتها من القوى السياسية المختلفة ذات التوجه الديمقراطي من جهة، ومسؤولية الحكومة الانتقالية التي يجب أن تسمح بهذه الولادة. فهذا يسمح بتعميق الحوار بين قوى المجتمع المختلفة وترسيخ الثقة بين المكونات بعضها بعضاً، وبين هذه القوى وسلطة الحكومة الانتقالية.

فهل تذهب الأطراف المعنية باستقرار سورية سياسياً وأمنيّاً واقتصادياً إلى هذا الخيار الأوسع؟ وهل ستتقبّل قيادة العهد الجديد برئاسة رئيس الجمهورية بمفهوم إن هناك حاجة وطنية ودولية لحكومة سورية تشمل كل الطيف السياسي الوطني؟ سيّما إن الغرب طالب عبر كثير من مسؤوليه بضرورة أن تكون الحكومة الانتقالية ممثلة لكل الفئات السياسية والاجتماعية السورية، منعاً لأي إحساس بالتهميش من قبل فئات المجتمع.

إن رفع العقوبات الغربية وفي مقدمتها الأمريكية، سيساعد على إنجاز مهام المرحلة الانتقالية بأقصر الأزمنة، مما يسمح باستقرار البلاد وإنجازها لدستورها الجديد، ولإجراء انتخاباتها الوطنية بشفافية حقيقية، وهذه مهام كل القوى السياسية في البلاد وليست وقفاً على لون سياسي بذاته.

فهل سينهج العهد الجديد طريق التشاركية السياسية الواسعة، أم إنه سيبقى أسير خياره الرئيس المتمثّل باللون السياسي الواحد؟

سؤال يجب أن تجيب عليه قيادة العهد الجديد بصورة واضحة وفق ما ينتظره الشعب السوري منها.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني