الفلاسفة العظام قتلة عظام
الفلسفة تعقل عالم بلا معقولية. بل قل الفيلسوف مفتاح هذا العالم المغلق. وإذا كان أفلاطون قد وضع الحجر الأساس في بناء أية فلسفة حين صاغ الوجود الحق بوصفه وجود المثل، فإن جيل دولوز بعد خمسة وعشرين قرناً عاد ليكرر ما قصد إليه أفلاطون. فليست المثل إلا المفاهيم نفسها. ما الذي يحمل الفيلسوف على إبداع المفهوم ـ المثال؟ لماذا هذا الولع بالعام والكلي، مع أن الفيلسوف هو الابن البار للخاص؟ السؤال هذا لا جواب له، لأننا إذا ما أجبنا ستقع في الدور حتماً، ولن نصل إلى جواب نهائي، فجواب حب الحقيقة سيطرح علينا مرة أخرى و«لماذا يحبها»؟ لكننا باستطاعتنا أن نتوسل الإجابة من طبيعة سؤال الفيلسوف. سؤال الفيلسوف يبدأ دائماً وأبداً بـ«ما». وليس سؤالاً فلسفياً ذاك الذي لا يبدأ بـ «ما». لأن «ما» هي الأداة الوحيدة التي تسأل عن الماهية الكلية، هذا إذا استثنينا الـ «ما» الدالة على غير العاقل. فسؤال ما الإنسان ليس هو سؤال من الإنسان. إن السؤال الذي يبدأ بـ«ما» هو سؤال عام أنتجه واقع خاص. ليس السؤال موجوداً في ذهن الفيلسوف مسبقاً. إنه ـ أي السؤال ـ مستتر بالأصل في الواقع، الفيلسوف ينقب عنه ليجده ويمنحه صيغة السؤال. ومن السؤال بـ«ما» تنشأ المشكلة الفلسفية التي إن لم تمت فلا جواب شافياً عنها. ذلك أن السؤال الفلسفي لا يرضى بجواب وحيد ما دام على قيد الحياة. ولأنه على هذا النحو يرتدي ثوب المشكلة. أجل الواقع رحم السؤال، والفيلسوف رحم المشكلة. لكن ما من سؤال يتحول إلى مشكلة إلا إذا انطوى على هذه الإمكانية. كل سؤال يستنفد الجواب أو الأجوبة ليس سؤالاً فلسفياً. لكن كل فيلسوف ينطلق من استنفاد سؤال الإجابة. ولهذا تتعدد الأجوبة، وتتعدد زوايا النظر الفلسفي إلى العالم رحم السؤال. ولأن الفيلسوف رحم المشكلة فإن الفلسفة هي التي تحول السؤال الخاص إلى سؤال عام عبر الإجابة العامة عن السؤال الذي صار مشكلة كلية. وهذا الذي يفسر لنا: لماذا تنمو للفلسفة أجنحة تسمح لها بالطيران والترحال والإقامة في مكان ليس هو مسقط رأسها. بل ان سؤالاً فلسفياً ومشكلة فلسفية قد يموتان في مسقط رأسيهما ليعيشا في زهو الشباب في عالم آخر. وسائل يسأل: أين خصوصية الأسئلة عن الشر والخير والموت وأصل العالم. إن الثقافة السائدة، والحياة المعيشة، والتجربة الخاصة هي التي تقف وراء طرح السؤال. فالحرب العالمية الأولى والثانية جعلت سؤال الموت أحد أوجه السؤال عن معنى الوجود الإنساني، فأنتج السؤال جواباً إهابه العبث والعدم والقلق واللاجدوى والسأم والتشاؤم واللامعقول… فيما لا نجد سؤال الموت سؤالاً حاضراً في الفلسفة العربية الإسلامية، وإن حضر فبعلاقة مع المعاد. لماذا رحلت الوجودية في صيغتها السارترية إلى واقع عربي نشط في الخمسينيات؟ إن الذي رحل هو جوابها أو أجوبتها عن سؤال ـ مشكلة أوربية. وليس بخاف على أحد أن سؤال السلطة الذي أنجب فكرة العقد الاجتماعي واقعة أوروبية بامتياز. إنه سؤال خاص كان من السهل على بعض مفكري النهضة أن يجعلوا من فكرة العقد الاجتماعي جوابهم عن سؤال سلطتهم. وقس على ذلك اتكاء طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» على «كوجيتو» ديكارت. يجب أن نميز بين ارتحال الفلسفة واستيطانها في عالم غير العالم الذي ولدت فيه وبين عملية الترجمة. لا شك في أن الترجمة وسيلة من وسائل استحضار فلسفة من عالمها الأصلي تفرضها الحاجة إليها، لكنها لا تقوم دائماً بهذه الوظيفة. لم تحدث ترجمة هيغل أثراً في الوعي الفلسفي العربي، ولا ترجمة هبرماس، فيما استوطنت ترجمة سارتر وماركس ودريدا في عالمنا الفلسفي. والسؤال: ما الذي يمنح الفلسفة قوة ارتحالها إلى عالم لم ينتج خصوصية سؤالها ولا عمومية جوابها؟ إن هذا متوقف على حال الثقافة نفسها. فهناك نوعان من الثقافة يحددان شكل ارتحال الفلسفة وحضورها انطلاقاً من أسئلتها المضمرة. الثقافة الموتورة والثقافة المتوترة. والثقافة الموتورة هي المنقطعة عن الثأر من الحياة، إنها راكدة آثرت السلامة. إنها ثقافة لا تنطوي على أسئلة مصيرية، والفلسفة هنا حالة فردية ـ وبالتالي مغتربة ـ وما ارتحال الفلاسفة من ثقافة متوترة إليها إلا ظاهرة منعزلة في ظل سبات ٍ تاريخي. فيما الثقافة المتوترة ثقافة مخاض دائم وهي على نوعين ثقافة متوترة لمجتمع غير مستقر، وثقافة متوترة لمجتمع مستقر. والمجتمع غير المستقر تاريخ يعيش مخاض الولادة، فيما المستقر يعيش تطوره دون مخاض ولادة. إن أوروبا وأميركا وما شابه ذلك من مجتمعات هي النماذج الأكثر سطوعاً المعبرة عن المجتمعات المستقرة المتوترة، فيما المجتمعات العربية هي مجتمعات متوترة غير مستقرة أحياناً وموتورة أحياناً أخرى. والثقافة المتوترة إما أن تكون ثقافة عالمية أو محلية والثقافة المتوترة العالمية هي ثقافة أمة عالمية، فيما الثقافة المتوترة الخاصة هي ثقافة أمة ناهضة. إن منطق ارتحال الفلسفة الحقيقي هو من ثقافة عالمية متوترة سواء كانت غير مستقرة أو مستقرة إلى ثقافة متوترة محلية. يذكر الجواب الفلسفي الذي أنتجته ثقافة عالمية الثقافة المتوترة المحلية بأسئلتها المضمرة. حيث يُظهر الجواب الكلي السؤال المضمر الخاص ويصير جواباً خاصاً مهما تعرض لانزياح من الثقافة المتوترة المحلية. وعندها تستوطن الفلسفة المرتحلة أرضاً جديدة ونكوصها الأرض الجديد بشمسها ويحصل لها مع الأيام لون جديد. ومن هنا نفهم ونبرر لماذا كان باستطاعة الفلاسفة العرب المعاصرين أن يعلنوا دون أن يرف لهم جفن أن أسلافهم ديكارت وماركس ومرجعهم سارتر ومونيه ومور. حتى الذين أخذوا على الأرسوزي نيتشويته والحبابي مونيته وبدوي هيدغريته والعالم ماركسيته بحجة انتمائهم للسلف الغربي وجدوا أنفسهم متكئين على باشلار وغرامشي وفوكو. بل حتى أن النكوصيين من المتعلقين بأستار التراث راحوا يبحثون عن درجة القرابة بين كل من الفارابي وابن سينا وابن خلدون وابن رشد وكل من ديكارت وماركس وتوينبي. يحدد ارتحال الفلسفة خيار الانتساب الفلسفي بوصفه موقفاً فلسفياً محضاً لا علاقة له بالانتماء القومي، فالجواب الفلسفي جواب كلي واستحضاره جواب عن حاجة. فليس مصادفة أن يستحضر منظرو البعث فيشته وبرغسون فما حاجتهم للتأسيس النظري للأمة دفعتهم إلى فيشته، وحاجتهم لفلسفة روحانية جعلتهم يولون وجههم شطر الوثبة الحيوية والحدس. ومن السهولة أن نعثر على حضور كانت ونيتشه وبرغسون إلى جانب الرسول العربي والإمام علي في جوانية عثمان أمين. غير أن هناك حالين من ارتحال الفلسفة: الأولى: ارتحال الفلسفة واستمرار إهابها الأصلي مع بعض الزخرفة المحلية. واستخدامها طريقة في التفكير بمشاكل محلية، وعندها يكون التجديد فيها محدوداً. وهذا حال كل المدارس الفلسفية الغربية التي استوطنت كثيراً من فلاسفة العرب المعاصرين. والثانية: استحضار الفلسفة من الثقافة المتوترة العالمية ونسيانها، حيث لا تعدو أن تكون عتبة لقول جديد في الفلسفة. وقلة هم فلاسفة العرب من يعيشون هذه الحال. ولعمري ان أعظم الفلاسفة طراً هم القاتلون لآبائهم أو اللقطاء الذين لا يعرفون أماً لهم ولا أباً. إذ لا يمكن أن يكون هناك تجديد فلسفي على الإطلاق مع بقاء سلطة الأب ـ الفيلسوف. وكل الفلاسفة العظام هم قاتلون عظام. ولهذا فالثقافة الموتورة ثقافة لا تنتقم أبداً من أسلافها مع أنهم قاتلون للتاريخ. ولهذا لم يستطع احدٌ من التراثيين العرب أن يصل إلى درجة ما من درجات الفلسفة، لأنه ظل أسير أسلافه حتى لو أعلن أن يجدد ويحدث. ويكمن المطعن الكبير للمشتغلين العرب بالفلسفة في أنهم قلما طرحوا سؤالهم الخاص بمعزل عن أسئلة الفلسفة الغربية. هذا لا يعني أن يكتشفوا سؤالا لم تطرحه الفلسفة الغربية… لا أبداً، بل يعني تعيين السؤال حتى لو كان مشتركاً. فأسئلة الحرية والأنا والمصير والموت وحتى التقدم الذي مازال سؤالاً عربياً، هذه الأسئلة لم تتعين في كثير من الأحيان في بيئتها. وبالتالي كان الاعتماد على الجواب الكلي الذي أنتجه الغرب كبيراً جداً. وليس في الأمر ما يدهش فالعرب بوصفهم أبناء ثقافة متوترة غير مستقرة يعيشون أيضاً لحظات الثقافة الموتورة كما قلنا. من هنا نفهم، لماذا ازدهرت واقعة التراثيين العرب، لقد نشأت هذه الواقعة وتطورت في لحظة الثقافة الموتورة.