العُنْف.. “أسباب وأضرار ونتائج”
1- تعريف:
العنف لغة: الشّدّة، والقسوة، والتقريع، والغلظة، واللوم الشديد وفي تاج العروس ولسان العرب، العنف: ضدّ الرّفق، الخُرْق بالأمر وقلّة الرّفق به، وعَنُفَ به، وعليه: أخذه بالشدة، والقسوة واللوم إنكاراً لفعل قام به بغية إصلاحه وردعه عنه.
واصطلاحاً: تجمع الآراء أن العنف سلوك جسدي أو نفسي أو لفظي متعمد يلحق الأذى بالآخرين سواء كانوا أفراداَ أو جماعة أو مجتمعاً.
ومنظمة الصحة العالمية تعتبره إحدى المشكلات الصحية العمومية التي تحدث نتيجة لاستخدام القوة والعنف البدني عن قصد سواء للتهديد أو للإيذاء الفعلي ضد النفس، أو ضد شخص آخر، أو مجموعة، أو مجتمع.
وتراه العلوم الاجتماعية والنفسية “تلك الظاهرة المتمثلة بالاستخدام المفرط للقوة بصورة غير مباحة شرعاً وقانوناً من قبل فرد أو جماعة من الأفراد بقصد إجبار الآخرين على الانصياع لرغباتهم أو تبني أفكارهم ورؤيتهم الخاصة للأمور الحياتية المختلفة الأمر الذي ينتج عنه تبعات اجتماعية خطيرة، فتعمّ الفوضى في المجتمع، وتنتشر مشاعر البغض والعدائية بين أفراده”، وهذا يشير إلى عوامل البيئة الاجتماعية الخارجية بالإضافة إلى العوامل النفسية الذاتية التي تكوّن السلوك العنفي، وتعززه لدى الفرد والجماعة.
2- أشكال العنف:
أ- مباشر:
- مادي أو جسدي: ويقصد به استخدام القوة الجسدية بشكل متعمد لإلحاق الضرر بالآخرين كالضرب، والتدافع، والاغتصاب، والقتل… واستخدام السلاح.
- معنوي أو لفظي: وهو استخدام الألفاظ النابية والبذيئة كالشتم، والتوبيخ، والتحقير، واللوم الشديد، والحرمان من التعبير عن النفس والأفكار…
ب- غير مباشر:
كالكسل، واللامبالاة، والسلبية في التعاطي مع المشكلات، وتعطيل المصالح للأفراد أو المجتمع.
3 – أسباب العنف:
العنف كسلوك ظاهرة لا ترتبط بزمان أو مكان محددين، ولا بسبب بعينه، فقد نشأ العنف وتطور منذ وجود الإنسان على وجه الأرض، وتنوعت أسبابه مع تطور الحضارة البشرية، وأصبح أحد السمات المجتمعية سواء كان المسبب فرداً أو جماعة، ولكل حالة عنفية دواعيها وأسبابها. والعنف كظاهرة تعود إلى انعكاس تفاعل الذات البشرية مع البيئة الخارجية ومكوناتها، وكسلوك تعود أسبابه إلى ذاتية الفرد نفسه، أو المحيط الاجتماعي، أو تأثيرات الإعلام، أو الحالة الاقتصادية.
1- الأسباب الذاتية:
شعور الفرد بالإحباط وتدني الشعور بالثقة بالنفس مما يؤدي إلى العجز عن مواجهة المشكلات وحلها، خاصة في مرحلة المراهقة، والرغبة بالاستقلال والتحرر من السلطة، والشعور بالنقص والحرمان العاطفي، وضعف التواصل مع الآخرين، وتنامي شعور الأنا والكبر وعدم القدرة على ضبط النفس، وتعاطي المخدرات مما يدفع إلى الشعور بالعدوانية، والحقد، والحسد، وتوجّه الفرد للانتقام بطريقة ما.
2- أسباب المحيط الاجتماعي:
- الأسرة: تفكك الأسرة، وضعف الروابط بين أفرادها، وتدني الحالة الاقتصادية، وضعف متابعة الوالدين لسلوك الأبناء، ومعاملتهم بالقسوة (ضرب، تجريح، تحقير مستمر…) وإجبارهم على تنفيذ ما لا يرغبون، أو تعاطيهما، كلاهما أو أحدهما، للمخدرات فيغيب المثل والقدوة الحسنة، وهذا يوضح الدور الكبير للتربية في تكوين شخصية الإنسان.
- المدرسة: إن ضعف إمكانيات المدرسة المادية، والبناء غير الملائم وملحقاته من دورات مياه وملاعب…، وضعف التجهيزات المدرسية من مخابر ومكتبة…، ووجود كادر تعليمي غير مؤهل تربرياً وتعليمياً، ومعاملة الطلاب بأساليب غير تربوية كاللوم والتحقير، فيغيب دور المرشد، وتنعدم الثقة بين الطالب والمعلم مما يؤدي إلى النفور، وانتشار الخلافات، والتسرب من المدرسة لعدم الاندماج مع الطلبة والمحيط المدرسي.
- الحي والسكن: إن تركيبة أو تشكيلة المحيط السكني، وتميز الأحياء بين التنظيم العمراني أو العشوائي، والحالة الاقتصادية للسكان يعزز ظهور الطبقية بين السكان مما يؤدي لشعور الأفراد بالتعالي، أو بالغبن ويدفع لعدم الانسجام، وتنامي شعور الحسد والدوافع العدائية.
- أثر الكحول وتعاطي المخدرات: إن تأثير الإكثار من شرب الكحول وتعاطي المخدرات لا يقتصر على الجانبين البدني والعقلي للفرد؛ وإنما يتعداهما إلى تراخي وتثبيط عمل الدماغ كمراقب للسلوك مما يجعل الفرد أكثر عرضة لممارسة العنف والاستجابة للمؤثرات الخارجية بشكل عدواني، وهذا يؤدي لضعف الروابط الاجتماعية وانتشار الجريمة في المجتمع.
3- وسائل الإعلام:
وأشدها خطراً الإعلام المرئي، فتكرار مشاهد العنف بأنواعه، والمبالغة في ترويجه عبر البرامج التلفازية أو السينمائية كنوع من أساليب الإثارة والتسلية، وتصويره كسلوك مقبول، وترويج شخصيات المجرمين والخارجين على القانون كأفراد خارقين يقومون بأعمال بطولية ليصبح العنف وسيلة مقبولة على المدى الطويل في مواجهة المواقف الحياتية وتقليداً لها دون النظر من القائمين على وسائل الإعلام لآثارها العنفية المؤدية لانتشار الجريمة في المجتمع.
4- الحالة الاقتصادية:
إن ضعف الإمكانيات الاقتصادية، وعدم توفر فرص العمل، وانتشار البطالة والفقر من الأسباب الهامة للشعور بالنقص والخذلان مما يدفع إلى تفشي العنف كوسيلة لحل المشكلات الاقتصادية التي يواجهها الأفراد في المجتمع وتؤدي لظهور الأمراض النفسية كالاكتئاب واليأس، والعزلة، وتنمية الدوافع العنفية والعدوانية لديهم.
4- أضرار العنف:
ينتج عن استخدام العنف وانتشاره مخاطر جسيمة وأضرار كثيرة تقع على الأفراد المعنفين وعلى المجتمع أهمها:
- أضرار جسدية “كدمات، كسور عظام، حروق… سوء تغذية، أمراض، موت مما يؤدي لزيادة نسبة الوفيات بسبب الخلافات والنزاعات المسلحة والحروب.
- أضرار عقلية ونفسية: ظهور الأمراض النفسية، والسلوكيات، العدوانية، والنزعة الإجرامية، والخوف والقلق، ونقص الإدراك العام للذات والثقة بالنفس.
- ضعف المهارات والعلاقات الاجتماعية والتواصل، وتفكك الروابط بين أفراد الأسرة، وبين أفراد المجتمع، وتلاشي الاستقرار الأسري والمجتمعي، وانعدام المسؤولية مما يؤدي لزعزعة كيان الأسرة والمجتمع.
- ظهور الأمراض بأنواعها الجسدية والنفسية، وزيادة التكاليف الطبية (علاج وأدوية…)، والسلوكيات العدوانية والنزعة إلى الإجرام.
- زيادة العداوات، وتأجيج الصراعات والحروب، وتحويل السلوك العنفي إلى وسيلة مشروعة لحل المشكلات بين الأفراد والجماعات والشعوب.
5- كيف نحدّ من ظاهرة العنف؟:
إن معرفة الدوافع والأسباب المؤدية للعنف والعمل على تجنّبها قبل حدوثها يمكننا من تجاوزها، والحدّ منها بالعمل على:
- إشاعة مبدأ الإخاء والتسامح والصداقة، وقبول الآخر المختلف، واحترامه من خلال التربية الأسرية والمدرسية، والمجتمع لترسيخ مبدأ حماية الأفراد والمجتمع من ممارسة جميع أشكال العنف.
- ترسيخ مبادئ الالتزام بالواجب، وتطبيق القوانين، وبالحقوق للجميع كسلوك، والابتعاد عن ممارسة العنف في الأسرة، وفي المجتمع خارجها.
- الإشراف على وسائل الإعلام، والحرص على عدم بث مشاهد العنف، والخلافات الأسرية والمجتمعية، بخاصة في برامج الأطفال، والتركيز على علاقات التسامح والإخاء..
- تثقيف الوالدين، وإعداد المعلمين تربوياً وعلمياً، وعدم استعمال العنف، وتوفير جو من المودة والاحترام للآخرين.
- توعية الشباب بأهمية القوانين وتطبيقها، وتدريبهم، وتأهيلهم لتحمّل المسؤولية والسلوك الإيجابي في حل المشكلات، والابتعاد عن الكحول وتعاطي المخدرات، ومساعدتهم في إشغال فراغهم بما يفيد بالانتساب إلى النوادي الرياضية، والفنية، والجمعيات الأدبية وممارسة الأنشطة فيها.
6- مَنْ يثير العنف ويوجهه؟:
لا شك أن ظاهرة العنف لا تنتشر في أي مجتمع دون أن يقف خلفها أفراد أو جماعات، أو مؤسسات تؤججها وترعاها لتنفيذ مصالحها الذاتية رغبة في السيطرة على المجتمعات والشعوب، والتحكم بإدارتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية باستخدام كافة القوى المادية والمعنوية، وأساليب الترغيب، أو الترهيب لإخضاع الآخرين دون النظر لحقوقهم المشروعة، ودفعهم لتنفيذ الأوامر لتحقيق مصالحهم سواء كانوا جماعات أو مؤسسات محلية أو خارجية تلقى دعماً دولياً، وترتبط بأفراد أو جماعات اقتصادية محلية، أو حركات سياسية تلتقي مصالحها بالقوى الخارجية، فتتحكم بتسيير دورة حياة المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وهذا التعاون يرخي ظلاله على الحياة اليومية للناس، وإذا ما طالبت بحقوقها في الحياة والعمل ورفاهية في العيش تجابه سداً من العنف تكتوي بناره لتبقى تلك الطبقات المهمشة في حالة مزرية لا تستطيع تحقيق طموحاتها في حياة حرة وكريمة.
وكثيراً ما يلقى المدافعون عن حقوق الإنسان تحذيرات بالإيذاء الجسدي، وتهديدات صريحة بالقتل في حال مشاركتهم بالمظاهرات السلمية المنددة بالقوى المتسلطة على اتخاذ القرارات المؤدية للعنف كما يُشاهد في دول ومناطق عديدة على سطح كوكبنا في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وآسيا، وأخيراً شرق أوربا.
يؤكد الباحث والمفكر الفرنسي البروفيسور (فرانسوا بورجا) “أن أسباب الإرهاب والتطرف سياسية بالدرجة الأولى وليست دينية كما يعتقد البعض، مشدداً على على (90%) من صناعة العنف في العالم يقف وراءها الغرب، والحكام المستبدون في المنطقة الذين يدعمهم الغرب”، إذ يبيع الغرب الأسلحة للجماعات الإرهابية، وللأنظمة المتعاونة معه.
7- هل يمكن انحسار العنف؟:
سؤال تحتاج الإجابة عنه وقفة تأمل وتفكير، فقد تختلف النظرة بين التفاؤل وبين التشاؤم في إمكانية انحسار العنف ذات يوم.
وعلى الرغم مما شهده العالم من نزاعات مسلحة، وأحدث عنف كثيرة في السنوات المنصرمة خلال العقدين الأولين وما يشهده في بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة، وتدهور كبير في أوضاع حياة الناس في مناطق النزاع، فإن الأمم المتحدة في خطتها لعام 2030 لخفض جميع أشكال العنف قد أخذت باعتبارها وضع استراتيجيات للتنمية المستدامة من شأنها إذا ما أُحْسِن شحن الطاقات لها، وتوفير الموارد التي تلبي احتياجات التنمية، وخفض العنف بأشكاله لمنع نشوب النزاعات، وحماية الناس، ومساعدة الدول المهمشة، والمجتمعات لتحقيق خطط التنمية.
واستناداً لجهود الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية العاملة على تحقيق خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة؛ لا يمكننا أن نفقد الأمل والتفاؤل بانحسار ظاهرة العنف المنتشرة في العالم، وما يدفعنا ويعزز تفاؤلنا المنظمات الإنسانية العديدة التي تعمل جاهدة على نشر ثقافة التسامح والإخاء والسلام والصداقة، وحقوق الإنسان للحد من هذه الظاهرة عالمياً، وتقف هيئة الأمم المتحدة داعمة لهذه المنظمات الإنسانية لتستطيع تنفيذ خططها لوقف العنف، واعتماد حلّ جميع المشاكل سلمياً بالاعتماد على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وما جاء في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان المدنيّة والسّياسيّة وبالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة) وما تلاها من مواثيق واتفاقيات دولية، فالشعوب جميعها توجّه نشاطها لدعم ومساندة هذه المنظمات الإنسانية لتحقيق أهدافها المرسومة بعد أن ملّت من النزاعات المسلحة وأعمال العنف التي تخسر فيها البشرية جمعاء قدرات الشباب التي يمكن توظيفها لحماية السلم العالمي، ورفاهية العيش بمعزل عن مصالح الدول الكبرى، وأن المستقبل يحمل في طياته أملاً بانحسار العنف، وإشاعة روح التفاهم والتسامح والصداقة والإخاء لإحلال السلام، وتحقيق الأمل بعالم مستقر خالٍ من الحروب، فلنتفاءل خيراً علّ الأجيال القادمة تصل لتحقيق ما اتفقت عليه شعوب العالم في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب… وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جوّ من الحرية أفسح، وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً بسلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي…”.