العقلانية هي المهد الرئيس للديمقراطية
قبل البدء في الحديث عن الديمقراطية أو العقلانية، يلح علي سؤال فيه إشكالية وعلى درجة من الأهمية وهو الإجابة عن سؤال الحرية، تلك المقولة الأوسع والأشمل خاصة في عالمنا العربي، وفي هذه المرحلة بالذات… لأن الحرية كما وصفها ابن رشد وهيغل بأنها ماهية العقل، فالعقل الحر هو القادر على الإبداع.
كما أن العقل صفة إنسانية فالحرية نزوع إنساني، والعقل والحرية مفهومان إنسانيان كمل كل منهما الآخر، لا حرية بلا عقل كما لا عقل بلا حرية. والعقل بغائيته وحركته وفعله يسمو دائما لتحقيق إنسانية الإنسان على الأرض، لقد أبدع العقل الإنساني الذي عبّر عن نفسه بالفلسفة، أو علم المنطق، أو علم الكلام، إبداعات كبيرة حتى أصبحت الفلسفة تسمى أم العلوم، وقدم الكثير من المعارف العلمية والإنسانية وغيرها وما زال وسيبقى إلى مالا نهاية، لأنه وكما قدمت صفة إنسانية غائية، وهي مصدر كل إبداع إنساني، وكان نزوع الإنسان إلى الحرية متلازماً مع تقدم وتطور العقل على مر العصور.
لم يكن من تقدم عقاي إلا ورافقه هامش من الحرية، هكذا ينبؤنا التاريخ الإنساني، وقد عرّفه الجابري بمعنى الملازم للطبيعة والكون أو الموجود فيهما وليس مفارقا لهما أو طارئا أو متأتيا من خارجهما.
ولكن الياس مرقص يرى أن اللوغوس أشمل من ذلك بكثير فيقول إن الجابري عرف اللوغوس العقل المحايث، ولم يعرفه بأنه بعد البداية وهذا ما يؤلمه. وقال: الفكر إدراك الهويات المختلفات في مختلف الاتجاهات وإلى مالا نهاية، والفكرية حرية الفكر واستطلاقه، وأضاف أن مسألة اللوغوس متضمنة الموضوع الذي تصدى له الجابري.
وإذا كان العقل صفة إنسانية يقوم على مبادئ واحدة بالتفكير غير أنها ليست ثابتة بل متحولة ومتغيرة، وفق طبيعة الواقع وحركته وتطوره، وكل مجتمع يحدد عقلانيته انطلاقاً من ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، ومن مستوى معارفه المادية والروحية وعلاقته بالآخر المتصلة المنفصلة في إطار جدلي بين العام والخاص بتصارعه وتكامله، لذا نجد في التاريخ القديم، الفلسفة اليونانية، والحق الروماني، والحكمة الشرقية، وهذا ما دفع روجيه غارودي إلى المطالبة في دمج روحانية الشرق مع مادية الغرب حتى يحصل التوازن وتستقيم عملية التطور البشري.
وهي أيضاً ليست خالصة بل قائمة على التمايز والتباين والاختلاف، والعقل تركيب اجتماعي متعدد الأشكال بين العلمي والأيديولوجي وغيرهما، ينظر إلى الحقيقة من زوايا متعددة ويدرك مستويات متباينة منها ومختلفة، تنمو في اختلافها وتتكامل في رؤيتها. والعقلانية تقوم على التوازنات، بين التعدد والاختلاف، في وحدة غائية هدفها الأسمى إنسانية الإنسان وامتلاكه لعالمه… وهي وعي العلاقة الجدلية، بين الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي في اتصاله وانفصاله، وبناء متكامل من أشكال متنوعة من الوعي تتجلى في المفاهيم والمقولات، والنظريات الجمالية، الفلسفية، الدينية، الحقوقية، السياسية، وغيرها. عبر رؤية تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، في حركة تواصل وتطور، وفق صيرورة متجددة، وهي التي تنتج المعرفة والثقافة والفكر، التي تشكل وسيلة الوجود الإنساني ببعديه المادي والروحي ولا يمكن الفصل بينهما وبين الصيرورة التاريخية الاجتماعية لأن هذه الصيرورة ما هي إلا تطور للحياة الاجتماعية ذاتها بكل ما تنطوي عليه من عملية إنتاج مستمر لما هو مادي وروحي، وما يتولد عنهما من علاقات بين البشر تجدد سلوكهم، ويعون ذاتهم وصولا لامتلاكهم عالمهم المعاش علمياً، فنياً، فلسفياً، دينياً، وأخلاقياً، وهي صورة لحركة المجتمع ماضياً، حاضراً، مستقبلاً ، تنطلق منه تنغمس فيه بصفتها طريقة لاستخدام العقل في توسيع نطاق المعرفة من خلال ابتكار أدوات الفهم، أو مضاعفة إمكانيات العمل والتدبير، وهي ذلك النشاط الفكري الذي يمارس به المرء علاقته المركبة بذاته وبالعالم، والذي يغير ذاته بقدر من يغير العالم، يقول ماركس في رأس المال المجلد الثالث: إن الحرية لا تتشكل من أي شكل آخر، سوى من حقيقة أن الإنسان الاجتماعي، المنتجون، المتحدون، ينظمون تبادلهم مع الطبيعة بشكل عقلاني، ويضعونها تحت سيطرتهم المشتركة، بدلاً من أن يكونوا محكومين بها، كقوة عمياء. إنهم ينجزون، من خلال أقل إنفاق للطاقة، وتحت شروط هي أكثر ملاءمة لطبيعتهم البشرية وأكثر استحقاقاً لها.
لقد ربط ماركس بين حرية الإنسان وتحقيقه لذاته، لجوهره، لوجوده النوعي عندما قال في المخطوطات الفلسفية: إن الإنسان المغرّب ليس فقط مغرّباً عن البشر الآخرين، بل وأيضاً، عن جوهر الإنسانية ـ أي عن وجوده النوعي ـ في كل من كيفياته الطبيعية والروحية، وهو بذلك يتلاقى مع المذهب الكانطي الذي يقول: بأن الإنسان يجب أن يكون دائماً غاية في ذاتهن وليس أبداً وسيلة لتحقيق غاية. إلا أن ماركس يوسع هذا المبدأ، عبر التأكيد على أن الإنسان للإنسانين يجب أن لا يصبح أبداً وسيلة للوجود الفردي.
لقد التقى ماركس مع العديد من مفكري القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في نقدهم للاغتراب، أمثال غوتيه الذي قال في محادثته مع إيكرمان: لماذا يتعامل العقل مع الشيء الحي والمتكمل فقط والذكاء مع التام والصارم.
وهيغل الذي قال: إن ما يسعى إليه العقل، حقيقة من أجله، هو تحقيق فكرته، ولكنه في فعل ذلك يقوم بإخفاء ذاك الهدف عن رؤيته، ويكون فخوراً وراضياً عن هذا الاغتراب عن جوهره (فلسفة التاريخ). هذا بالإضافة إلى شيلر، وفيخته، وغيرهم.
ولكن ماركس تميز عن هؤلاء وخاصة هيغل حيث قال: إن التعارض المباشر مع الفلسفة الألمانية التي تنطلق من السماء نزولاً إلى الأرض هو أننا نصعد من الأرض باتجاه السماء.
إن مفهوم الاغتراب لدى ماركس يرتكز على التمايز بين الوجود والجوهر، على حقيقة أن وجود الإنسان مغرّب عن جوهره، وعلى أنه في الحقيقة ليس هو ما هو كامن فيه، وهو يربط بين الفعالية العقلية والعمل بكل أشكالهن يدوي، فني، ذهني، ويرى بأن العمل اللامغرّب لا يحقق الإنسان ذاته كفرد فقط وإنما أيضاً ككائن نوعي.
والكل أجمع على أن الفرد يمثل النوع، أي يمثل الإنسانية، والعمل المغرّب لا يأخذ فقط من الإنسان موضوع إنتاجه، بل وحياته أيضاً موضوعيته الواقعية ككائن نوعي.
وهم يرون بأن الإنسان هو حي بقدر ما هو منتج، وبقدر ما يفهم العالم خارج ذاته، من خلال فعل التعبير عن قواه الإنسانية الخاصة، ويقبض فيه على العالم بواسطة هذه القوى. وهنا يشترك معهم سبينوزا.
إن العقلانية المادوية التي تقوم على منطق واحد وأساسي وهو أن الدافع السيكولوجي الأعظم في الإنسان، هو ميله للراحة والكسب المادي، وأن سعيه من أجل الفائدة المادية القصوى يشكل الحافز الرئيس في حياة الإنسان الفردية، في تطور الجنس البشري.
وعقلانية دعاة المجتمع الصناعي أمثال رستو وانيل بيل وريمون أرون الذين يحددون التطور الاجتماعي بفعل التطور التكنولوجي وينظرون إلى التاريخ، كجدلية ذاتية الحركة أتمتة وعقلية بعض المتدينين التي تدمج بين الروحانية والإيمان بالله، والتي تقول بأن الإيمان بالله شرط التوجه الروحاني، والعقلية الطبقوية التي لا ترى من صراعات في المجتمع إلا صراع الطبقات، والتي لا ترى في المجتمع إلا غنياً وفقيراً وتقسمه طبقياً على هذا الأساس… إن هذه النظريات ومثيلاتها تنفي إنسانية الإنسان وتدفعه للاغتراب عن ذاته، عن جوهره الإنساني.
إن الإنسان ليس كائناً مجرداً، أو ذرةً غير واعية مسلوخة عن وجودها الاجتماعي. بل كذرة تنحرف قليلاً انحرافاً يجعل الحرية هدفاً للجميع، كما وصفها أحدهم..
إن البؤس الإنساني يستقر عندما لا تبصر البشر كبشر يصنعون تاريخهم بلا وعي كعوامل منتجة لا غير.
إن الإنسان هو مصنع الوعي وهو صانع لتاريخه، وما دام يصنع تاريخه هو إذن نتاج ذاته.
إن التاريخ هو عملية تحقق ذات الإنسان عبر تطور عمله وإنتاجه الذهني واليدوي.
إن النظرة للإنسان يجب أن تنطلق من جوهره أساسا من ذاته الإنساني، والعمل الإنساني بكل أشكاله وسيلة لتحقيق هذه الذات، في تبدلاتها وتحولاتها وأشكالها.
إن مسيرة الحياة الإنسانية العاقلة والطويلة والمستمرة إلى ما لا نهاية، هي وليدة الحياة الإنسانية برمتها، وهي نتيجة لصراعها مع ذاتها ومع الواقع الذي تعيشه، لذا كان تنوعها وتعارضها وتباينها وتوافقها نابعا من حركة الواقع في تعارضاته وتبايناته… لأنها وليدة الواقع المعاش، وانعكاسا له، ولكنها ليست انعكاسا ميكانيكيا، بل هي النابعة منه والمدركة لحركته وأشكال تطوره، والناظمة لميسرته، لأن البشر كائنات فاعلة، منتجون لأفكارهم ومفاهيمهم.
لقد قسم روبير بلانشي المسيرة الإنسانية العقلانية غلى ثلاث مراحل، بدأت الأولى منذ بدأ الإنسان مسيرته العقلية، أي منذ بدأ يعقل واقعه، حتى القرن السادس الميلادي، حيث ازدهرت في العصر الإغريقي من هذه المرحلة وكان فرسان ذلك العصر، سقراط، أفلاطون، أرسطو، ثيو فراسط، السفسطائيين، زينون الأيلي، المغاربين، الرواقيين، وغيرهم، وسمي هذا العصر بالعصر الإبداعي نظرا للتقدم الذي شهده ذاك العصر، وتلاه العصر الوسيط الذي امتد حتى القرن الخامس عشر، ومن أشهر فلاسفته: فروفوريوس، غالياس، بيار أبيلا، توما الأكويني، ومن الإسلاميين: الفارابي، ابن سينا، ابن رشد، وسمي هذا العصر بالعصر المدرسي لأنه حول المنطق من شأن خاص يتداوله الفلاسفة أو المتمنطقين، إلى شأن شبه عام، ونقل تدريسه إلى المدارس والمعاهد والجامعات، وكان لذلك أساسا مهما في النهضة الأوروبية.
ثم العصر الحديث، ومنه انطلقت مقولة العقلانية حيث سمي القرن السابع عشر بعصر العقل حسب قول ستيوارت، وكان من أشهر فلاسفته: بيكون، باسكال، هوبز، ديكارت، سبينوزا، لابينتز، وتلاهم العديد من الفلاسفة الكبار الذي قدموا للفلسفة والمنطق والعقل البشري شيئاً كثيرا باتجاه التقدم والشمول، بحيث أصبحت الفلسفة، وكما هو معروف اليوم، أم العلوم كما أشرت، ومنهم: غوتيه ، كنط، هيغل ، ماركس، وغيرهم أيضا.
غير أن تقسيم مسيرة (العلوم العقلية) إلى مراحل وفق ما قاله روبير بلانشي فيه شيئاً من التعسف. لأنها مسيرة متواصلة دون انقطاع وهي فاعلية مستمرة للعقل البشري، وبنيان متكامل متراص، وهي تختلف عن أوجه الحياة الإنسانية الأخرى، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، لأنها تقوم على عملية التطور، وليس على مبدأ النفي والانتقال كما في الأوجه الأخرى.
بعد هذا العرض نلجأ إلى طرح السؤال المهم والأساسي، وهو كيف يمكن أن تسود العقلانية وهي الممهد الأساسي للديموقراطية في عالمنا العربي الذي انقطع عن المساهمة في مسيرة العقل البشري منذ قرون خلت؟ كيف يمكن أن تسود العقلانية أو أن تنطلق المسيرة العقلانية في مجتمع يعاني من تخلف شامل بكل أوجه الحياة؟ وكلما ازداد المجتمع البشري تطورا وتقدما كلما ازداد هذا التخلف عمقا وانعكس ذلك على مواطننا العربي استلابا وغربة، وكلما سادت الخرافات والأساطير والمعايير التي تحدد للإنسان موقعه، نظرته إلى نفسه وإلى الحياة برمتها، حيث جعلت هذه النظرة قائمة على الجبرية النافية لجوهر الإنسان لحقيقته الخلاقة المبدعة لأن جوهر الإنسان هو أعمق من فقدان الحاجات المادية، بل هي هدر لقيمته الإنسانية، لقدسيتها، للاحترام الجديرة به.
إن إنساننا العربي، ليس مستلب اقتصادياً أو سياسياً أو معنوياً فقط، إنه مستلب من الطبيعة أولاً، لأنه أسير لغوائلها التي تهدد وجوده، بدون حماية أو سلاح، إن الطبيعة مازالت بنظر إنساننا كلية القدرة لا حول له أمامها ولا قوة.
وبالإضافة إلى الطبيعة، فهو يعيش تحت أشكال متعددة من القهر التسلطي، على أيدي أقلية سلطوية طائفية، أو عشائرية ، أو حزبية تفرض هيمنتها على الغالبية العظمى من الشعب بالتحالف مع قوى خارجية بشكل صريح أو مقنع، والعنف هو الأسلوب الوحيد السائد في وجهيه المادي والمعنوي، وعلى كافة المستويات المرتبية من أعلى قمة في الهرم إلى أدناه، من الحاكم الأول والأوحد إلى زبانيته وأعوانه، وبين هؤلاء القلة من الأقوى إلى الأضعف، ومن الكبار إلى الأطفال، ومن الرجل إلى المرأة، ومن الأخ الأكبر سنا إلى الذين يلونه، وقمة الهرم ترضخ أيضا لنمط مقنع من السيطرة من خارج الحدود، يقول فرانز فانون: إن السيد المستعمر يقوم يوميا بإدخال العنف إلى عقول وبيوت المستعمرين وهو يدخل في وعيهم أنهم ليسوا بشرا وإنما أشياء. ويقول الكواكبي: إن المستبد ترتعد فرائصه من علوم الحياة، مثل الحكمة والنظرية، والفلسفة العقلية، وقد ربط الاستبداد بالجعل، والحرية بالمعرفة، وهو محق في ذلك، وقال أيضا: فالمستبد لا يخاف إلا من العلوم التي توسع العقول وتعرف الإنسان وما هي حقوقه. وهو محق أيضاً كما أنه يعاني من شظف العيش والبطالة المقنعة وغير المقنعة، ومن القهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والتفكك الاجتماعي وسيادة الأفكار المتخلفة من طائفية، وعشائرية، وإقليمية، ومن الجهل والتجهيل، والفساد والإفساد.
إن الدارس لمجتمعنا العربي يلحظ التداخل بين البنى الاجتماعية الطبقية بشكلها المتشابك المعقد تربط بينهما علاقة جدلية وهذا ينعكس على عملية الصراع الطبقي، لعدم وجود وعياً فردياً ولا وعياً طبقياً ولا حتى طبقات بالمعنى الماركسي للكلمة.
لذلك نقول بأن الفرز الطبقي القائم على الثروة، غنياً وفقيرا، عاملا أو رأس ماليا، فرز غير دقيق، لأن الطبقة ليست مالاً فقط، بل فكراً وأيديولوجية تعبر عن مصالحها، وهذا يتطلب الوعي.
كما أن مجتمعنا يعاني كل هذه المعاناة من الصعوبة بمكان أن ينهض من خلال العزف على وتر الحاجات المادية فقط على الرغم من أهميتها.
إن الفشل الذي آلت إليه محاولات النهوض السابقة في وطننا العربي سببه الأساسي:
أولا: إن القوى التي تصدرت قيادات هذا النهوض لم تتحرر هي نفسها من الاستلاب، بل بقيت مستلبة ومستلبة بنفس الوقت، مستلبة من الخارج، ومستلبة لمواطني بلدانها في الداخل، وما زالت حتى الآن العملية مستمرة تحت أشكال متعددة من العنف الصريح والمبطن أحيانا، وعلى نطاق واسع وتحت شعارات براقة.
ثانيا: إن القلة المفكرة في بلادنا تعيش حالة من الغربة، وتأخذ بالنقل بدلا من العقل، وتشكل امتدادا لأفكار إما خارجية أو ماضوية بعيدة عن الواقع المعاش وغير منسجمة معه ولا تلبي حاجاته، وبالتالي لم تعقله أو تعقلنه بسبب غربتها عنه، إن العقلانية تنفي التقليد، كما تنفي النقل، والعقلنة هي أولا وآخراً إطلاق لحرية العقل وسيادته.
ثالثاً: إن الفكر العربي هو فكر الثنائيات المتنابذة المتخالفة غير المتجادلة، لذلك بقي فكراً قاصرا عاجزاً، ونحن اليوم نجني ثمار عجزه وفشله.
إنني أوافق حرب في قوله: “لا أخال أحداً يعتقد بأن العقلانية العربية التي ابتكرناها، أو مارسناها قد استهلكت نفسها، وفقدت فاعليتها”. كما أوافق الياس مرقص الذي قال: “العقل العربي التعس هو العقل الذي لا يقيم وزناً للمنطق والأخلاق والجمال، الحقيقة فوق العلم والأخلاق فوق السياسة”.
إن أية نظرية عقلانية تدعي لعملية النهوض والتحرر لابد ان تأخذ في الاعتبار هذا الواقع، بحيث يشكل المنطلق الأول لمفاهيمها وأشكال عملها ونضالها وأن تضع من أولى مهامها تناول المفاهيم المستخدمة ومحاولة دراستها بمفهومية جديدة وبعقلانية منفتحة، نقدية، واقعية دون شطب أو حذف، لأن العقل يقوم على الاختلاف ليس على التطابق.
إن تحليل هذه المفاهيم (كالعلمانية، العقلانية، المادية، المثالية، التقدمية، الرجعية، الدينية، وغيرها) أصبح يشكل الوسيلة الأساسية لتنوير الذهن، وتقويم المنطق. لأن هذه المفاهيم تشكل تكثيفات للتجارب، والتجارب لا يمكن الاستفادة منها إلا إذا تم استيعابها، والاستيعاب يجب أن لا يقتصر على قلة من المثقفين، بل كلما اتسعت دائرته كلما كانت الفائدة أكبر، والاستيعاب جزء من المعرفة، والمعرفة تستوجب التفكير العقلاني حيث دون هذا التفكير لا يمكننا الاستفادة من التجارب الأخرى ولا من تجاربنا…
لقد اصبح العديد من المفاهيم الرائجة في ساحتنا الفكرية إشكالية كبيرة، بسبب الالتباس بفهمها وطرق التعامل معها، وأدت إلى حساسية كبيرة في الوعي السائد على ساحتنا العربية، وخاصة في الكتلة الرئيسية في المجتمع، وسأقدم أمثلة على ذلك:
يعتقد البعض بأن العلمانية ضد الدين وأنها فكر وافد من الغرب الاستعماري، وفسرها البعض الآخر بأنها فكرة استعمارية يراد بها استلاب إرادتنا الوطنية، وأنها معادية للتراث، وقال البعض إن العلمانية هي كل ما يتعلق في العلم التجريبي وأن العلم هو نشاط عملي، والحتمية والمادية والغائية تنتمي إلى الفلسفة ولا تنتمي إلى العلم، ومنطق العلم غير منطق الأخلاق أو الدين.
كما قال البعض بأن العملية هي الفلسفة الماركسية.. إلخ، وما يصبح على العلمانية يصح على العقلانية في العديد من أوجهها، وهناك من يرى في الخضوع للإرادة الاستعمارية عمل عقلاني.. وهناك خلاف في فهم التراث.. منهم من يعتبره رجعي ومتخلف وماضوي ومنهم من يعتبره تاريخ وأصالة.. وإلى ما هنالك من تعارضات وتباينات حول هذه المفاهيم على أرضية التنابذ والاختلاف بعيداً عن الجدل والوحدة. إن الفهم العقلاني يقوم على وحدة وصراع المتضادات ليس على عملية الشطب والحذف.
كما ان هناك فهم قائم على تعارض الدين مع الفلسفة والعلم والعقل. والسؤال ماذا يصبح الدين عندئذ؟ إنه سيتحول إلى أيديولوجية ظلامية، تهدد السلام الاجتماعي، حيث ينحصر البعد الروحي لصالح النفعية والانتهازية، ويتيح في المجال لهيمنة شريحة جاهلة، ويباح استخدام الدين بأشكال متعددة وضارة بالإنسان وبالمجتمع وبالوطن وبالأمة.
إن الدين جزء من صيرورة إنسانية، وكان له دوراً بارزاً في ارتقاء الإنسان روحياً واجتماعياً واقتصادياً والإسلام خير مثال على ذلك، وقد قال بعض الفلاسفة بأن الدين أخلاق وآخرون قالوا بأن الأخلاق دين ومنهم ماديين مثل فيورباخ. كما أن الأنبياء لم يخاطبوا غرائز البشر بل خاطبوا عقولهم “ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة”. الأنفال آية 42
إن إعادة النظر في هذه المفاهيم مسألة في غاية الأهمية، وخاصةً منها المسألة الدينية لما لها من أثر في مجتمعنا العربي قاطبة، حيث يشكل جزءاً مهماً من مشروع عقلنة الوعي العربي، وهو مشروع فكري في الأساس، معرفي في الجوهر، وسياسي في دلالاته ومغزاه، ويمكن أ ينقلنا إلى فهم عصري متحرر ومنفتح للدين بوصفه صيرورة تاريخية اجتماعية، يعاد إنتاجها باستمرار، ليكون بالحجم المطلوب للحداثة المطلوبة في هذا العصر. بحيث ينتقل من موقع المكيف مع العلوم إلى موقع المنتج لها، ويشكل ركيزة أساسية من مشروع النهضة العربية. وأخص بشكل أكبر الإسلام.
إن مشروع عقلنة الوعي العربي هو بمعنى آخر مشروع إعادة بناء السياسة من منظور مختلف عما هو حاصل الآن في واقعنا العربي، فبدلاً من أن تكون السياسة غايتها السلطة ومتمحورة حولها، تصبح الغاية المجتمع والانطلاق للسلطة من المجتمع (أي تتبدل الأولويات) بحيث يشكل المجتمع الغاية والوسيلة، منه البداية ومن أجله النهاية، على قاعدة العقل والتعقل والعقلنة والأنسنة.
إن العقلانية هي في واقعيتها قبل كل شيء ليست فكراً مجرداً، وليست نموذجاً يحتذى، أو بناءً على مثال سبق، أو اقتباس من تجربة أخرى، أو نقلاً أو إسقاطاً، بل هي فهم للواقع المعاش وعقلنته، وهي إبداع مستمر، أو سبق دائم للمشاركة في صناعة الحدث، عبر إنتاج الحقائق وخلق الوقائع.
إن العقلانية تحتم علينا أن نقرأ كل ما توصلت إليه العقلانيات الأخرى من تقدم وتطور. لا على سبيل المحاكمة من أجل نفيها أو التماهي معها، بل بوصفها إمكانيات يمكن استثمارها والاستفادة منها في توسيع حقول المعرفة، أو تحديد أدوات الفهم وطرائق التفكير، وذلك هو النقد الفعال والمنتج، عندئذ تتحول علاقتنا بالهوية والانتماء والوطن والأمة إلى أرض الاستنبات أفكار جديدة ومفاهيم خلاقة وخارقة، كمال قال علي حرب.
مقال جميل بكل تفاصيله يبقى رهن التطبيق لنرأب الصدع المتجذر في مجتمعنا العربي بين النظر والعمل