العشائرية في المنطقة الشرقية من سورية والبحث عن دور مفقود
مقدمة:
تعتبر المنطقة الشرقية من سورية وهي محافظات /دير الزور – الحسكة – الرقة/ من أغنى البقاع السورية على صعيد الزراعة المروية والبعلية وتحديداً زراعة المحاصيل الحقلية كالقمح والشعير والذرة والقطن، وتربية الماشية والحيوانات حيث تستفيد هذه المنطقة من نهري الفرات والخابور إضافة إلى استفادة أقل من نهر دجلة الذي يمر بها قرب منطقة المالكية. أما الخابور الذي ينبع من رأس العين عند الحدود السورية/التركية ويصبّ في الفرات عند البصيرة بدير الزور فقد تعرض حوضه المائي إلى استخدام جائر ما أدى إلى عدم جريانه. وتعتبر المنطقة الشرقية من أغنى مناطق البلاد بالنفط والغاز حيث توجد غالبية آبار هذه الثروة فيها.
تشغل المنطقة الشرقية مساحةً إجمالية تقدر بـ 76.1 ألف كم2 أي ما نسبته 41.1 بالمئة من المساحة الإجمالية لسورية(1)، ويقطن هذه المنطقة ما يقرب من أربعة ملايين نسمة أي ما نسبته 17.1 بالمئة من عدد سكان البلاد الكلي(2).
وتمتاز المنطقة الشرقية على الصعيد السكاني باعتبارها مجتمعات عشائرية وقبلية تعايشت عبر زمن طويل في هذه المنطقة، وهذه العشائر وتحديداً العربية منها لها امتدادات إقليمية تشمل مناطق عيشها التاريخية والتي تعرضت إلى التقسيم بفعل اتفاقية سايكس بيكو.
وحين نريد أن نعرّف العشيرة فنحن نستطيع القول: إنها “مجموعة من الناس تجمعهم قرابة ونسب فعلي أو متصور حتى لو كانت تفاصيل النسب غير معروفة. قد يتم تجميع أعضاء العشيرة حول العضو المؤسس أو السلف الأول وقد تكون الروابط القائمة على القرابة رمزيةً حيث تتشارك العشيرة في سلف مشترك مُحدد الذي يعتبر رمزاً لوحدة العشيرة”(3).
ولفهم بنية العشيرة أو القبيلة ينبغي تسليط الضوء على تطور المجتمعات البشرية عبر أنماط إنتاجها البدوية أو الزراعية، فهذان النمطان هما من يلمان الجماعات البشرية المنحدرة من أصول واحدة ونسب واحد في صيغة اجتماعية تحفظ لهم نسبهم ومصالحهم الاقتصادية وتؤمّن لهم الحماية عند التعرض للمخاطر.
ولفهم الأمر أكثر يمكن القول “إن العشيرة تمثل صورةً بدائيةً للاجتماع الإنساني، فهي تُطلق على مجموعة من الناس تجمع بينهم روابط القرابة أو ما يعرف بالمجموعة وحيدة النسب، وعادة ما يوحدها انتماء أفرادها إلى طوطم واحد واشتراكهم في مُلكيةٍ واحدةٍ، والتزامهم بالتضامن والتعاضد في الاحتفالات وفي الأخذ بالثأر من خصومهم وتأليفهم مجموعةً حربية متراصة”(4).
وتعتبر العشيرة كحجم بشري أصغر من القبيلة التي تضم عادة مجموعة من العشائر ذات القربى “فالقبيلة وجمعها قبائل تعني الجماعة من الأشخاص الذين ينتسبون إلى أبٍ واحدٍ أو جدٍ واحد”(5).
وجاء في معجم المعاني الجامع أن عشيرة الرجل: بنو أبيه الأقربون وقبيلته. والعشيرة هي مجتمع إنساني صغير يشترك في ملكية واحدة ويتضامن في أخذ الثأر من خصومه وهو أضيق من القبيلة”(6).
مفهوم العشيرة ووجودها:
تعتبر العشائر في المنطقة الشرقية من سورية هي النسيج الاجتماعي الذي يعبّر عن مجتمعات هذه المنطقة. وعبر تاريخ المنطقة وتحديداً منذ الحكم العثماني لها، كانت الحكومات المتتالية تحرص على إيجاد علاقة مع القبائل والعشائر بغية فرض السلطة عليها وجباية الضرائب منها. وباعتبار أن العشيرة والقبيلة هما إطاران للتنظيم الاجتماعي لمجموع الأفراد فيهما فإنهما يشكلان أساس الانتماء الفردي ما قبل الدولة الوطنية. فالفرد في تلك الآونة لا يقول عن نفسه إنه شامي أو حجازي بل يقول إنه من قبيلة طي أو شمّر أو غيرهما من القبائل العربية، وهذا الانتماء ليس مجرد انتماء اجتماعي فحسب بل هو تعبير عن هوية سياسية لهذه الجماعة البشرية. “فالقبيلة خلال الحكم العثماني للمشرق العربي حافظت على علاقات وثيقة بالمراكز الحضرية للسلطة العثمانية وكذلك بمؤيديها في البادية”(7).
إنّ وجود العشيرة في مكان واحد يحدده أساساً نمط إنتاجها الاقتصادي، فلا يمكن تخيل أن مجموعةً بشرية على درجة من القربى الاجتماعية توجد في منطقة واحدة لمجرد البحث عن الحماية فحسب، بل هي ينظمها محور عمل اقتصادي واحد يكون إما مرتبطاً بتربية المواشي والحيوانات وهذا يعتمد على الحركة والبحث عن المراعي وهو ما نسميه “البداوة”. وإما أن يكون الإنتاج الزراعي هو نمط علاقاتهم بحيث تكون الأرض موزعة فيه بين أفراد العشيرة أو القبيلة، ويكون هناك ناظم للعلاقات داخل هذا التشكيل الاجتماعي، إذ تتبوأ أسرة من أسر هذه العشيرة أو القبيلة مركز قيادة هذا المجتمع الصغير بما يتفق مع صيغة العقد الاجتماعي السائد بينهم والمتفق عليه لدى جميع أفرادها. “إن العشيرة وهي مجموعة بشرية تشكّلها العلاقة القائمة على رابطة الدم لأنها منحدرة من نسب واحد يرجع إلى جدٍ أعلى وتتكون من عدة عوائل وغالباً ما يقطنون في موطن واحد يضمهم، وتكون لهم لهجة وثقافة وعادات وتقاليد واحدة”(8). وتوجد عشائر المنطقة الشرقية من سورية في محافظات (دير الزور – الحسكة – الرقة) قرب ضفاف الفرات والخابور ودجلة وفي المناطق الممطرة. وتتكون عشائر دير الزور الرئيسية من قبيلة العكيدات التي تضمّ طيفاً واسعاً من العشائر المتعاقدة، وقبيلة البقّارة وعشائر البوسرايا إضافة إلى عشائر أخرى تقطن في مراكز المدن. وتقطن غالبية عشائر العكيدات على ضفتي نهر الفرات شرقي مدينة دير الزور باتجاه الحدود العراقية، أما قبيلة البقارة توجد في سلسلة قرى على الضفة اليسرى من الفرات غربي مدينة دير الزور. أما في محافظة الحسكة فتوجد قبائل كقبيلة طي وقبيلة شمّر إضافة إلى بعض عشائر البقارة والعكيدات، بينما تقيم العشائر الكردية في غالبيتها على الشريط الحدودي المحاذي لتركيا بدءاً من منطقة المالكية “ديريك”. أما في الرقة فالقبيلة الرئيسية في هذه المحافظة هي قبيلة البوشعبان الزبيدية التي تنحدر منها غالبية عشائر الرقة العربية. هذه العشائر تشكل الغالبية الكبرى من سكان محافظة الرقة. إن وجود هذه العشائر ينظمه كما قلنا نمط الإنتاج الاقتصادي الذي يمثّل نمط البداوة سابقاً والانتاج الزراعي لاحقاً.
العشائرية قبل الثورة /سياسياً واجتماعياً/:
يمكن فهم وضع المكانة العشائرية في المنطقة الشرقية من سورية من خلال فهم التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، ولا يمكن بحال من الأحوال إهمال أثر هذا التغير على البنية القبلية والعشائرية لمجتمعات القبائل والبداوة في هذه المنطقة الهامة. فبعد دخول الفرنسيين إلى سورية عام 1920 “حدث انقسام قبلي تراجع معه دور القبيلة الكبرى مقابل صعود دور العشائر والمشايخ الأقل شأناً”(9).
إذاً يمكننا فهم العلاقة بين وضع /القبيلة – العشيرة/ وبين درجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فكلما تطورت البنى الاقتصادية وأنماط الإنتاج فيها سيكون ذلك مترافقاً بدرجة ما مع صعود قوىً سياسيةً تعبّر عن الاتجاه الاقتصادي الجديد، وبالتالي سيمسّ هذا التطور البنى الاجتماعية القائمة في المجتمع، فعندما بدأ الإنتاج الصناعي والزراعي ينمو في البلاد أثّر ذلك على البنى الاجتماعية التي التحقت بعمليات الإنتاج ما غيّر من هذه البنى وغيّر من نسق العلاقات الناظمة لها.
قبل الاستقلال عام 1946 كانت العشائر هي الإطار التنظيمي السياسي للبنى الاجتماعية في المنطقة الشرقية وكان أبناء العشائر يعتبرون أن هويتهم السياسية هي هوية عشائرهم. بعد الاستقلال وتشكل الأحزاب السياسية بدأ تراجع دور العشائر سياسياً لمصلحة هذه البنى حيث بدأت الأيديولوجيات السياسية تغزو البنى الاجتماعية مترافقة مع ازدياد نسبة التعليم، فتجد ضمن العشيرة الواحدة رؤى سياسية مختلفة وانتماءات متعددة. وحين أتى حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 عمل على “إعادة الاعتبار للزعامات القبلية حيث تمت إعادة من هاجر إلى السعودية والعراق إلى وطنهم الأصلي سورية، ومنحوا مناصب عليا في الدولة ومجلس الشعب السوري، فأعاد حافظ الأسد التحالف مع القبائل بعد محاربتها من قبل الحكومات الوطنية بعد الاستقلال والسنوات الأولى من حكم البعث”(10).
إذاً يمكن القول: إن العلاقة بين زعماء العشائر في المناطق الشرقية من سورية وبين نظام الحكم في عهد حافظ الأسد كانت تقوم على تقديم تسهيلات ومناصب لهؤلاء الزعماء، وفي الوقت ذاته يعمل نظام الحكم على تشجيع قوى داخل هذه العشائر لتكون على علاقة سياسية به تُضعف بصورة غير مباشرة من دور زعامات العشائر وتهدّد سلطتهم عند الضرورة، فالاستبداد السياسي في سورية ونظام حكم الحزب الواحد غيّب عن العشائر دورها السياسي فتحولت من دورها السابق إلى دور الداعم لبنية النظام السياسي القائم. أما من رفض لعب هذا الدور فقد اكتفى بالصمت السياسي وبقي يلعب دوراً في النشاط الاقتصادي أو الاجتماعي ضمن العشائر. هذه الخلخلة في بنية العشيرة نتيجة التطورات السياسية والاقتصادية جعل أفراد هذه العشائر يُحسّون بقوة الدولة وسلطاتها السياسية مقابل ضعف العشيرة وتراجع دورها السياسي.
“أما الآن لم يعد ذلك النظام العشائري متماسكاً بعد أن عمّت فيه الثقافة والعلم وكثرة الأكفاء وأصحاب القدرات الفكرية في كل عشيرة، وتمدنت المنطقة وتعولمت بالتنوع البشري وأثّر وجود الدولة القائمة والقوية التي يحكمها الدستور والقانون على فكر العشيرة وبالتالي حلّت الروابط الجديدة والتقاليد المدنية محل الروابط القديمة”(11).
ولكن بقيت ثمة علاقات تجمع وجهاء القبائل والعشائر بالسلطة السياسية التي تركت لهم بعض دور يُبقي على بعض مكانة اجتماعية لهم وسط قبيلتهم أو عشيرتهم. ويوضح هذا الحال شيخ عشيرة البو فرج من قبيلة العكيدات فيقول: “العلاقة بين السلطة والقبيلة في سورية قبل انتفاضة عام 2011 كانت علاقة جيدة جداً وحتى عندما تراجع وضع شيوخ العشائر بقي لشيخ العشيرة كرامة وقيمة لدى الدولة”(12).
وفق هذه التغيرات السياسية في البلاد على مدار مئة عام يمكن القول: إن مكانة العشائر السياسية والاجتماعية تراجعت بصورة كبيرة في لعب دور سياسي أساسي، لكنها بقيت تلعب دوراً اجتماعياً أقلّ من دورها السابق. لكن في كل الأحوال ما عادت العشيرة تعبّر عن رؤية سياسية واحدة لأفرادها وهذا يتجلى في اختلاف المصالح الاقتصادية والسياسية لهؤلاء الأفراد المنتمين إليها، والذين لم يعودوا مرتبطين بنمطي الإنتاج السابقين (البدوي والزراعي) وبالتالي باختلاف المصالح تختلف الولاءات والمواقف.
الدور العشائري في الحراك السلمي:
بقي الحراك السلمي في المنطقة الشرقية رهن نشاط نخب سياسية أكثر منه رهن نشاط سياسي عشائري، لذلك كانت مراكز المدن في هذه المنطقة هي ملعب الحراك السياسي في انتفاضة عام 2011. تمثّل الحراك السلمي في المنطقة الشرقية بمطالب محددة تتعلق بضرورة إطلاق الحريات السياسية ووقف كل أشكال التمييز السياسي وغير السياسي، لكن هذا الحراك بقي بعيداً عن القرى والبلدات الريفية التي لم تنخرط في آلياته، فكانت التظاهرات السلمية هي أداة التعبير لدى القوى التي كانت تقود هذه الاحتجاجات. ولمواجهة هذا الحراك لجأ النظام إلى تفعيل دور شيوخ العشائر في محاولة منه إلى منع مشاركة هذه العشائر في الانتفاضة، ولكن النظام فاته “وعبر عقود طويلة وضمن مفاهيمه الشمولية أنه عبر مرحلتي الأسدين (حافظ وبشار) سعى إلى تحطيم الدور الاجتماعي والسياسي للقبائل والعشائر السورية ومنعها من التعبير عن خصوصيتها القبلية فضلاً عن إنهاء القيادة الاجتماعية للعشائر العربية وصهرها في إطار التبعية
الأمنية “(13).
وباعتبار أن الحراك السلمي هو حراك مدني ذو طبيعة وطنية متقدمة على بنية العشائرية نجده أكثر وضوحاُ وفعالية في مراكز مدن المنطقة الشرقية مما هو في أريافها وبلدانها التي لا تزال تنتمي بدرجة ما إلى بنية عشائرية بدون هوية سياسية. “لقد خسر النظام السوري نتيجة انتفاضة عام 2011 السيطرة على جزء كبير من شرق سورية التي تقطنها القبائل أساساً”(14). هذه الخسارة أتت من اعتماده على زعامات عشائرية ضعيفة في وسطها لا تستطيع تمثيل عشائرها سياسياً لأنها ربطت مصالحها الضيقة “الشخصية والعائلية” بعجلة الأنظمة وليس بمصالح عشائرها، ويمكن القول “تبخّر ذلك الزمن الذي كان فيه شيخ القبيلة قادراً على إبرام الاتفاقات مع قوى خارجية نيابة عن كل أفراد قبيلته”(15).
الدور العشائري في مرحلة العسكرة:
يمكن فهم الدوافع العشائرية في المنطقة الشرقية تجاه القيام بعمليات التسلح وتشكيل كتائب خاصة بها للدفاع عن نفسها في ظلّ انسحاب سلطة النظام الحاكم التي أصبحت هدفاً عسكرياً للانتفاضة. لقد وضع النزاع مع النظام المجتمعات العشائرية أمام حاجتها للأمن، ما دفع هذه العشائر إلى التركيز على ضرورة الدفاع عن مجتمعاتها المحلية، فتشكلت في أغلب المناطق الشرقية كتائب وألوية عسكرية غايتها الدفاع عن مناطقها بالاعتماد على الدعم الوارد إليها من قوى إقليمية تسابقت في دعم هذه الكتائب والألوية لغايات سياسية خاصة بها. “سعت القوى الخارجية منذ الانتفاضة السورية في العام 2011 إلى استقطاب الدعم القبلي لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية فتحالفت مع مشايخ القبائل واستخدمت البنية القبلية لتشكيل وحدات مقاتلة”(16). هذا الأمر وفي ظل تشرذم ولاءات ودور العشائر في المنطقة الشرقية سمح بغياب تام لوحدة العمل العسكري من أجل وضع يدها على الثروات النفطية وتحديداً في محافظة دير الزور. كانت العسكرة لدى العشائر شكلاً من أشكال الدفاع عن المصالح الاقتصادية وتحديداً ما يخص الثروات النفطية في المنطقة.
لم تقم العشائر التي كانت قد تعرضت بنيتها عبر تاريخها إلى التمزق بخطوات جادة نحو تشكيل جيش محلي في محافظتي دير الزور والرقة ليحلّ محلّ جيش النظام الذي انسحب من هاتين المحافظتين، هذا الأمر جعل الكتائب العسكرية العشائرية هدفاً سهلاً لقوى عسكرية أكثر تنظيماً وأوضح أهدافاً مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” داعش، بينما استطاع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في محافظة الحسكة من بناء ذراعه العسكرية والتي لم تقم أساساً على القاعدة العشائرية. لقد حاولت العديد من الأطراف المنخرطة في الصراع السوري بما في ذلك نظام الأسد والإسلاميون المتطرفون والأكراد وقوى إقليمية دمج قادة العشائر في أجنداتها السياسية اعتقاداً منها أن العشائر ستحذو حذو مشايخها ولكن هذه الأطراف نسيت أن هؤلاء المشايخ لم يعودوا يملكون اليوم السلطة التي كانت لديهم في السابق، وتبين في الصراع الجاري أن العشائر حوّلت اهتمامها إلى شؤونها الخاصة ما أضعف من وحدتها. لذلك لم يعد لدى العشيرة الواحدة قرار واحد إذ تباينت الرؤى في داخلها نتيجة التدخلات السياسية والإقليمية بأجنداتها ومصالحها ما أوجد أتباعاً لها في أغلب العشائر. وهذا ما يُظهر كيفية تغيّر ولاءات العشائر، فبعد مرحلة الجيش الحر سيطرت جبهة النصرة المنتمية إلى تنظيم القاعدة الدولي على طيف واسع من كتائب الريف في المنطقة الشرقية، وحين دخل تنظيم “الدولة الإسلامية” داعش إلى المنطقة وخاض صراعاً مع النصرة وبقايا الجيش الحر وجدت كتائب الريف نفسها في أغلبها مضطرة إما إلى الانسحاب من المنطقة أو مبايعة داعش. هذا التغير في الولاء يكشف عن انتماء حقيقي للمصالح الضيقة ما قبل الوطنية التي عششت في عموم الريف السوري وتحديداً في ريف المنطقة الشرقية والتي أتت على أرضية تمزيق البنية القبلية الأولى إلى كيانات أصغر، ثم زرع انشقاقات داخل هذه الكيانات تعتمد على التمييز الاقتصادي والسياسي بغية تفكيك البنية القبلية الأولى. هذه الحالة وجدت متسعاً من تغيّر الولاءات لقوى مختلفة ذات أجندات سياسية متناقضة. وفي هذه الحالة يمكن القول: إن العشيرة باعتبارها مكون اجتماعي سياسي اقتصادي ما قبل وطني خسرت عبر مراحل متعددة دورها السياسي والاقتصادي وبقيت لديها الحالة الاجتماعية التي تتعرض هي الأخرى للعصف والتفكك من جديد مع تشكل طلائع مجتمع مدني جديد.
لقد أظهر تغيّر ولاء العشائر من النصرة إلى داعش ثم إلى قسد أن هذا الولاء يتحدد بتوفر شروط، ومن هذه الشروط أن يقبل الطرف المسيطر سياسياً ببقاء شيء من المصالح لهذه العشائر، وأن توجد قواسم مشتركة بين الطرفين تخدمهما وإن بصورة الحد الأدنى. وهذا الولاء المتغيّر لا يحكمه أفق وطني بل يكشف عن تمزق داخلي في بنيةٍ كانت يوماً ما أساساً اجتماعياً صالحاً في عهود ما قبل الدولة الوطنية عام 1946.
أثر المجتمع المدني وثقافته على الثقافة العشائرية:
ليست نشأة المجتمع المدني السوري بأشكاله الحديثة جديدة أو وليدة مرحلة الاستقلال وما بعده، ففي أواخر عهد الدولة العثمانية بدأت الدولة الجمعيات السياسية والاجتماعية والثقافية تظهر في المجتمع السوري. ومن هذه الجمعيات والأحزاب التي وجدت قبل عام 1908: “1- الجمعية العلمية السورية وتأسست في بيروت 1847. 2- جمعية بيروت السرية التي انبثقت عنها لاحقاً حركة القوميين العرب وتأسست هذه الجمعية عام 1875 وأعضاؤها من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت. 3- مؤتمر دمشق عام 1877 ودعا إلى استقلال سورية عن الخلافة العثمانية. 4- جمعية حفظ حقوق الملّة العربية وتأسست عام 1881 وكان خطابها عروبياً. 5- الجمعية الخيرية في دمشق وهي جمعية إسلامية خيرية تعمل في مجال السياسة أسسها طاهر الجزائري أواخر القرن التاسع عشر. 6- جمعية الإخاء العربي العثماني. 7- المنتدى الأدبي وتأسس عام 1909″(17).
ويمكن اعتبار “الهيئات والمنظمات الاجتماعية المستقلة التي قامت من أجل خدمة أعضائها أو أهدافها وذات طابع خيري تعاوني تطوعي هيئات مجتمع مدني، كالنقابات والنوادي الاجتماعية وغيرها”(18).
المجتمع المدني هو مجتمع يقوم على أساس توزع الناس على أنماط مختلفة في الحياة الاقتصادية وبالتالي فهو يجد جذره الأساسي في مفهوم المواطنة والدستور الواحد والقانون الواحد، وتتشكل تعبيرات المجتمع المدني وفق دستور يسمح بها، منها الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة والجمعيات الثقافية والعلمية والفنية والنوادي الاجتماعية الخاصة بالمرأة والطفل والشباب ومثل هذه التعبيرات تظهر في دولة الاستبداد بطريقة تخدم النظام السياسي ولا تخدم أهداف جماعاتها الأساسية. فالمجتمع المدني يغزو بثقافته البنى الاجتماعية المختلفة الأقل تطوراً ومنها البنى العشائرية فيؤثر على ثقافتها ويدفع أعضاء هذه البنى إلى الانخراط في الهيئات الأوسع ذات القاعدة الوطنية الأكبر وذات القدرة المحمية بالقانون الوطني العام. فالعلاقة التي تربط الفرد العشائري بعشيرته تراجعت أمام علاقة هذا الفرد بكيانات المجتمع المدني الأوسع والتي صارت تلبي حاجاته المتزايدة، فنحن أمام تغيّر في البنى الاقتصادية يستتبعه تغير في البنى السياسية والثقافية والاجتماعية ما يجعل البنى الثقافية والعشائرية في حالة تراجع مستمر مع تطور عمل ووجود منظمات المجتمع المدني، ولبيان هذه الحالة يمكن القول “إن المجتمع المدني في سورية ظهر بصورته المؤثرة المستقلة بعد انطلاق الاحتجاجات وشهد انفجارات مدنية في جميع الميادين منها منظم ومنها عشوائي”(19)
سيادة القانون والعرف العشائري:
يكتمل بناء دولة المواطنة باكتمال بناء كل أنساقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على قاعدة قانون واحد ناظم لكل حياتها بحيث يشكل هذا القانون قاعدة تجمع كل مكونات هذه الدولة بما فيها مكونها العشائري التاريخي. ومعنى سيادة القانون يأتي بالتعريف الذي يقول “إنها مبدأ للحوكمة يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة بما في ذلك الدولة ذاتها مسؤولة أمام قوانين صادرة علناً وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان”(20). وحين يكون القانون عاماً وشاملاً وواحداً تتراجع أمامه القوانين والأعراف في البنى السابقة له كالبنية العشائرية أو الطائفية أو كل البنى التي تسبق بناء الدولة الوطنية.
سيادة القانون هي “أصل من الأصول الدستورية ويترتب عليها أن لا يمكن للسلطات العامة القائمة في بلد ما أن تمارس سلطتها إلا وفق قوانين مكتوبة صادرة وفق الإجراءات الدستورية المتفقة مع الدستور في بلدٍ معين، والهدف تحقيق مبدأ الحماية ضد الأحكام التعسفية في الحالات الفردية”(21).
أما العرف العشائري فهو ما تعارف عليه أبناء العشيرة الواحدة والعشائر الأخرى فيما بينهم من عادات وتقاليد وأعراف اعتادوا عليها في عاداتهم اليومية واعتبروه مرجعاً خاصاً بهم يعتقدون به ويعتبرونه منهجاً أساسياً يعلقون عليه آمالهم لحل جميع قضاياهم وتسوية خلافاتهم عن طريق الصلح والمصالحة والتحكيم أو عن طريق القضاء العرفي.
“فالعرف العشائري هو قانون غير مكتوب ولكنه محفوظ في صدور القضاة المعنيين في العرف العشائري لحلّ الخلافات والنزاعات القائمة بين القبائل وجميع العشائر في المحافظة”(22). ونتيجة لتطور المجتمع وسيطرة الدولة المركزية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ووجود منظومة قوانين واحدة يخضع لها الجميع يتراجع العرف العشائري نتيجة تفكك البنية العشائرية ودورها ما يسمح لسيادة القانون بالتغلب على العرف العشائري بصورة عامة وليست مطلقة، ولا يزول العرف العشائري في قضايا يجد أفراد العشائر أن المحاكم تستغرق وقتاً طويلاً لحلها فيلجؤون إلى عرفهم الذي يقبلون بنتائجه عموماً.
العشائر في المنطقة الشرقية ودورها المستقبلي:
لا يمكن لأي سلطة سياسية أن تقوم بشطب دور مكون تاريخي في حياة المجتمع السوري، فالمنطقة الشرقية من البلاد هي منطقة تجمع رئيسية للعشائرية، وقد ساعد على استمرار وجود نمط المفاهيم العشائرية هو بقاء هذه المنطقة على درجة كبيرة من الإهمال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فنظام حافظ الأسد الذي لعب دوراً في خلق بوابات التنافس في العشيرة الواحدة لإضعاف سلطة مشايخها التاريخية لم يكن يريد إلغاء وإنهاء وجود هذ المكون وذلك بغية الاستفادة منه في السيطرة السياسية عليه. وإذا ما توقفت الحرب وعمّ السلام في البلاد فإن المنطقة الشرقية بحاجة إلى جهود عشائرها من أجل لملمة جراح مرحلة الحرب والصراع، ومن أجل منع الاقتتال الداخلي. فالعشائر صمّام أمان في مرحلة الانتقال السياسي، ولكن هذا لا يعني إعادة إنتاج هذه العشائر وكأنها ضرورة تاريخية مستمرة، فالأشكال الاجتماعية ما قبل الوطنية كالعشائر تتفكك تدريجياً بحكم التطور العام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وينتقل المجتمع شيئاً فشيئاً من الحماية العشائرية إلى حماية القوانين العامة وتستبدل الثقافة العشائرية بثقافة وطنية جامعة فينتقل الولاء العشائري من كونه ولاء للعشيرة إلى ولاء أعلى يتمثل بالولاء لوطن واحد يتساوى أبناؤه جميعاً تحت سقف دستور وطني واحد وقوانين واحدة.
ومن أجل هذا التطور في ظل الاستقرار ستنشأ روابط جديدة في المجتمع المدني الجديد، روابط مهنية وعمالية ونسائية وشبابية، ويتراجع فكر العشيرة لمصلحة الفكر السياسي الوطني على اختلاف برامجه السياسية أو رؤاه الأيديولوجية، وهذا ما حدث بعد الاستقلال الوطني عام 1946 لكن حكم البعث الذي اتسم بالاستبداد وحكم الحزب الواحد منع هذا التنوع الفكري والسياسي وسحق كل من حاول الخروج على تأبيده، وهذا ما جعل كل المكونات ما قبل الوطنية ومنها العشيرة والقبيلة والطائفة ضيقة على مصالح الشعب.
المرحلة القادمة هي مرحلة المجتمع المدني السوري حيث تنصهر كل المكونات نتيجة تطور الحياة بأنساقها لمصلحة هذا المجتمع بما فيها المكون العشائري.
ثبت المراجع
1- المجموعة الاحصائية السورية عام 2010 – دمشق – الهيئة المركزية للإحصاء
2- نفس المصدر السابق
3- ويكبيديا – الموسوعة الحرة – عشيرة.
4- www.bsociology.com علم الاجتماع مفهوم العشيرة.
5- Mawdoo3.com – غادة الحلايقة – 08-04-2018 ما الفرق بين القبيلة والعشيرة.
6- معجم المعاني الجامع – عربي/ عربي. عشيرة.
7- العربي الجديد – سمير الدومي – 17- 07 – 2017 ز العشائر السورية وتحولات الهوية
8- المحامي دحام المنادي – التحولات التي مرت بها العشيرة في محافظة دير الزور مقال ص1.
9- العربي الجديد – سمير الدومي 17- 07 – 2017 العشائر السورية وتحولات الهوية
10- المصدر السابق
11- المحامي دحام المنادي – التحولات التي مرت بها العشيرة في محافظة ديرالزور
12- العربي الجديد – سمير الدومي – 17 – 07 -2017
13- SNP – العشائر السورية محط أنظار الأطراف الفاعلة 05 – 02 – 2018
14- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – خضر خضور – كيفن مازور 28 – 02 – 2017
15- المصدر السابق
16- المصدر السابق
17- مركز الشرق العربي – الأحزاب السياسية ما قبل الاستقلال – مؤمن محمد نديم كويفاتية
18- ديناميات المجتمع المدني في سورية – طالب الدغيم 24 – 11 – 2017 المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام
19- المصدر السابق
20- www.un.org الأمم المتحدة وسيادة القانون
21- ويكيبديا – الموسوعة الحرة – سيادة القانون.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”