
العجلة السورية تدور رغم وضع العصيّ فيها
كانت الحالة السورية قبل سقوط الأسد كارثية بكل المقاييس، وكانت البلد مُقسَّمة بالواقع أرضاً وشعباً. لم تكن سوريا في نظر الخارج وأغلب من في الداخل أكثر من مريض ميؤوس من شفائه، متروك لقدره المحتوم. وكان مسموحاً ذرف بعض الدموع على حالته وإرسال بعض المساعدات الإنسانية التي تُبقي المريض على قيد الحياة.
كانت جيوش دول عظمى وإقليمية تتواجد على الأرض، وكلها في حالة خصام ومصالحها متناقضة جذرياً. واكتفت مرحلياً بما حققته من مكاسب وفقاً لموازين القوى على الأرض، ولكنها في حقيقة الأمر غير راضية بما حققته، وتتحيّن الفرص لأخذ المزيد.
يبدو أن سوريا عدد أولي لا يقبل القسمة، وبسبب موقعها الاستراتيجي كملتقى بين ثلاث قارات، كان لا بد أن تكون مع أحد المحاور. وبسبب موقعها، لم تكن مرشحة أن تكون حيادية كسويسرا مثلاً، بل كان لا بد من أن تصطبغ بلون واحد؛ إما أن تستمر كدولة مارقة تحت حكم آل الأسد وملحقة بالمحور الإيراني-الروسي، أو أن تعود إلى طبيعتها وتكون جزءاً من أمتها العربية وصديقة لجوارها التركي. ورأس الحربة في ذلك هو قدرة المعارضة السورية على إسقاط النظام وتغيير وجه وقبلة سوريا (وهو ما حدث مؤخراً بعد مخاض طويل).
كان الأسد الهارب يوقن أنه انتصر (أو سينتصر قريباً في أسوأ الحالات)، وكان يُعطّل أي حل أو مسعى لتفكيك الملف السوري سواء كان داخلياً أو خارجياً. فهو على المستوى الداخلي يرى أن سوريا مزرعة ورثها عن والده الذي استحوذ عليها بالقوة، وسيورثها لابنه الذي يحمل اسم جده. وكان الجد المقبور أنشأ تلك المزرعة بحيث لا تقبل أي مشاركة من العبيد أو الرعية الذين يعملون بها. وكانت تلك سياسة الوريث الأحمق قبل وبعد اندلاع الثورة ضده، وكان خياره الأوحد هو الحسم العسكري للبقاء. وهذا النهج هو ما أودى به مؤخراً إلى الهزيمة المطلقة عسكرياً.
في الوجه الآخر من المعادلة الداخلية، كانت قوى الثورة وحواضنها المجتمعية مُصرّة على الانتصار حتى في أحلك الظروف. وكان من أهم عوامل انتصارها أنها لم تستسلم، ولم تتسلل الهزيمة أو الإحباط إلى عزائمها، ولم تنكسر إرادة القتال لديها. واستطاعت قوى الثورة الحفاظ على أرض محررة من سلطة الأسد، وليس بكبير أهمية مساحة تلك الأرض أو غناها بالموارد. وبالفعل كانت الأرض التي تَشبّثت بها الثورة ضيقة وفقيرة بالموارد، ولكنها شرط لازم لبقاء الأمل بالنصر والتحرير من داخل الأرض، حيث لا ثورات تنتصر من خارج الحدود.
وتمكنت الثورة من المحافظة على بنية عسكرية مقبولة، باستطاعتها هزيمة جيش النظام وحلفائه بمجرد أن تتوفر ظروف موضوعية لذلك، وهو ما حدث مؤخراً في عملية ردع العدوان.
على المستوى الخارجي، كانت وصفة الدواء الدولية لمعالجة المرض أو المريض السوري هو القرار 2254، وهو ليس أكثر من إدارة للأزمة وتجنب اشتباك مباشر دولي-إقليمي في سوريا، والاكتفاء بالحرب بالوكالة. وكانت خياطة الجرح السوري بقيحه خياراً لكل المتدخلين، بانتظار بجعة سوداء تظهر لتغيير موازين القوى والمعادلات على الأرض. وهو ما حدث بالفعل، حيث ظهرت بجعتان سوداوان وليس واحدة، أدّت بحروب دخل بها حليفا الأسد الصلبان (روسيا وإيران). وقد أدّت تلك الحروب وتشتيت الجهود إلى ترك تداعيات كبرى على نظام الأسد، الذي أدمن الاعتماد على الدعم الخارجي للبقاء، ولم يخطر على باله بناء قوة داخلية تحميه سواء كانت عسكرية أو مجتمعية.
سقط النظام، وبدأت العجلة السورية تدور وتُحقّق الإنجاز تلو الآخر، ومنها:
1- لم يكن مشهد الانهيار الكبير دموياً، ولم تجرِ أي عمليات انتقام رغم الهزيمة أو الاستسلام الكامل للنظام. وكانت الصورة وردية وأفضل بكثير من كل مشاهد انتصار الثورات أو حروب التحرير. بل يأخذ البعض على القيادة السورية المنتصرة إفراطها في التسامح والعفو رغم امتلاكها المقدرة.
2- الحفاظ على مؤسسات الدولة المدنية وتأمين سير أعمالها وتقديم خدماتها للمواطنين، بل بشكل أفضل مما كان. وقبض الموظفون رواتبهم بعد عشرين يوماً من سقوط النظام على سبيل المثال.
3- جرت إصلاحات ضرورية وفق الإمكانات المتاحة، بحيث تم فصل عدد كبير من الموظفين الوهميين الذين زرعتهم أجهزة النظام لسرقة المال العام كمكافأة لهم على الولاء. ولم تُوقِف إلا رواتب العسكريين الذين كانوا في جيش النظام بعد 2011، بانتظار التدقيق في أوضاعهم. وتم إعطاء إجازة في المنزل مدفوعة الأجر لتدقيق أوضاع مدراء المؤسسات فقط، والذين يتم تعيينهم بقرار أمني كما هو معروف، وذلك خشية من أن يكونوا دود الخل في المؤسسات المنوي إصلاحها.
4- تم إلغاء الخدمة الإلزامية وتحرير الشبان السوريين من هذا العبء، حيث أساء النظام طوال العقود الستة لمفهوم ومعنى وغاية الخدمة الإلزامية في الجيش، وحوّلها إلى بؤرة فساد وارتزاق كبرى. وتم تسريح كل العسكريين الإلزاميين دون مساءلة.
5- تم إنشاء مكاتب تسوية أوضاع لمنتسبي أجهزة الأمن والجيش في النظام البائد، بشرط عدم ارتكاب أي جريمة بحق السوريين وتسليم سلاحه لانخراطه بحياة مدنية جديدة.
6- توفير مناخ من الحرية مباشرة بعد سقوط النظام، ودون وضع أي قيود، وهو أمر لم يألفه السوريون، بحيث يتم التعبير عن الرأي خاصةً المعارض لتوجهات العهد الجديد دون الخوف من أي إيذاء أو اعتقال.
7- تبييض السجون وفتح المجال لعودة كل المهجرين والملاحقين خارج سوريا، والقدوم لبلدهم بعد إسقاط كل التهم والبلاغات وأوامر التوقيف بحقهم. وتم لم شمل العائلات لترميم بعض ما خلفه النظام من مآسي لحقت بهم.
8- تم إلغاء جميع البلاغات والمراسيم التشريعية والقوانين الاستثنائية والمحاكم الخاصة التي تُكبّل الوطن والمواطن. وتم حل الضابطة الجمركية الداخلية ومكتبها السري، والتي كانت أداة ابتزاز ضاربة بيد النظام.
9- في مؤتمر النصر، تم تعطيل الدستور وحل مجلس الشعب وكل الأحزاب، وحل مجالس النقابات والهياكل المهترئة الأخرى التي خلفها النظام وراءه.
10- كانت ضغوطات قصوى (داخلية وخارجية) يتعرض لها النظام الجديد حول ضرورة إبراز البعد المدني للعهد، بهدف إشراكه في العملية السياسية ولضمان توسيع طيف المشاركة من كافة المكونات السورية لإشراكها في وضع تصورات وأهداف للمرحلة المقبلة. شابت السرعة انعقاده، ولكن على كل الأحوال كان انعقاده أفضل من تأجيله، وحقق معظم أهدافه برفع توصياته للقيادة.
11- لو كان يوجد نية من الأجهزة الرسمية (الأمنية والعسكرية) للانتقام من مجرمي جيش النظام البائد أو حواضنه الأهلية، لحدث ذلك باكراً بعيد إسقاطه، ويمكن تبرير ذلك بالفوضى الناجمة عن التحرير وعدم القدرة على ضبط المقاتلين. إلا أن ذلك لم يحدث، وقدّم العهد الجديد نموذج مدينتي نبل والزهراء الشيعيتان والأحياء التي تسكنها أغلبية علوية في دمشق وحمص.
كان متوقعاً قيام الفلول بدعم من إيران وحزب الله بمحاولة تقليد الثورة السورية والاحتفاظ بأراضي واسعة لا يستطيع النظام الجديد دخولها، لبناء قاعدة تمرّد في الساحل السوري وامتلاك أوراق قوية ضاغطة على العهد الجديد. لم يحدث ما تمناه المتآمرون، وتم إجهاض التمرد بسرعة وبأقل قدر من الخسائر والتداعيات. ويُعتبر ذلك نجاحاً للعهد الجديد في معالجة بؤرة خطيرة وُضِعَت في طريقه.
12- لا شك أن الاحتضان الدولي والإقليمي بعد الاحتضان الداخلي لأغلب قطاعات الشعب السوري للعهد الجديد ودعمه للعبور بسوريا من حقل الألغام الحالي ومعالجة تركة النظام بأقل الخسائر، ظهر ذلك بالاعتراف المبكر بشرعية النظام الجديد واستقبال الرئيس الشرعي في السعودية وتركيا والأردن، ثم في القاهرة أثناء مشاركته بالقمة العربية الطارئة في القاهرة. إضافة لزيارات العديد من المسؤولين الأوروبيين والأمميين والعرب والترك والأمريكان لدمشق، وتخفيف العقوبات وتعليق بعضها تمهيداً لرفعها، واستقبال وزير الخارجية السوري في العديد من العواصم العربية والإقليمية والدولية. ولم يكن ليتم ذلك لولا الإشارات الإيجابية والأقوال المقرونة بالأفعال التي صدرت عن الرئيس.
13- تم إشراك الحكومة السورية باكراً في بدء إنشاء منظومة أمن إقليمية في المنطقة، وهذا يدل على الثقة الكبيرة في النظام الجديد، حيث لذلك التعاون خصوصية كبرى وثقة متزايدة. تلك المنظومة الأمنية الإقليمية تضم أربعة دول هي سوريا وتركيا والأردن والعراق، وغايتها التنسيق لمحاربة الإرهاب بشقيه الداعشي والماعشي. وعقدت تلك الدول باكورة اجتماعاتها مؤخراً في عمّان.
14- تم الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية على حلها واندماجها في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وبسط سيادة الدولة السورية على منطقة شرق الفرات، واستلام المعابر وحقول النفط والحدود والمطارات والسدود من سلطات الأمر الواقع. وهذا إنجاز جيد للرئيس الشرعي والسيد مظلوم عبدي، حيث لن تُراق قطرة دم سورية واحدة في سبيل إنهاء الوضع الشاذ في المنطقة.
15- وتم مؤخراً تقديم اللجنة التي كلّفها الرئيس بصياغة الإعلان الدستوري، حيث قدّمت اللجنة إعلاناً دستورياً جيداً وبسرعة قياسية لإملاء الفراغ القانوني للدولة الوليدة، وإعطاء الشرعية الدستورية لكل الأعمال الواجب إنجازها في المرحلة الانتقالية.