الضامنون يأكلون الحصرم، والسوريون يضرسون
من ناحية الشكل يمكن أن نقول إن انعقاد جولات أستانة 18 هي استمرار للجولات السبعة عشر الني سبقتها، فعند صدور البيان الختامي يتم استحضار بيان الجولة السابقة وتغيير رقمها وتاريخها، أما هذه الجولة (وأظنها الأخيرة) فإنها اختلفت من حيث الجوهر كثيراً لتغير موازين القوى بين الأفرقاء.
في مقدمة أي جولة من جولات أستانة كنا معتادين على تصعيد روسي عنيف يكسر هدوءاً نسبياً كان سائداً، بل أحياناً قبل أن يعلن عن موعد جولة المباحثات الأستانية، كنا نشهد قصفاً جوياً شديداً، وأحياناً في مناطق غير متوقعة، فنستنج أننا بالتأكيد مقبلون على جولة جديدة من المسار الذي يكرهه كل السوريين من الحواضن المدنية للثورة، نضع أيدينا على قلوبنا ونتساءل أي منطقة سيبتلعها الدب الروسي الجائع وكم شهيداً يكفي لإشباع نهمه؟ ولكن الباصات الخضر للتغريبة السورية اتجاهها واحد وهي كنهر العاصي تخالف كل قوانين الطبيعة فتجري من الجنوب إلى الشمال منها يبقى في الأرض السورية ومنها يصب في بلاد الترك المجاورة.
على أمل قريب بإذن الله أن تعيد الجريان وفق قوانين الطبيعة لتصبح كنهر الفرات تجري من الشمال إلى الجنوب.
التصعيد السابق للجولة تركي وليس روسي
هذه المرة كان التصعيد تركياً وليس روسياً، تبدأ أنقرة حربها للتمدد جنوباً كنهر الفرات، فتطلق معركتها السياسية من قمة هرم السلطة، وكان إطلاق النار كثيفاً يغطي ما تبقى من الشريط الحدودي وموبخاً للقوتين العظميين، ومذكراً بنقضهما للعهود والمواثيق، حيث تعهد في العام 2019 نائب الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي للرئيس التركي بسحب كامل العصابات الإرهابية إلى ما بعد المنطقة التي تراها أنقرة أمنية لها، وآمنة للسوريين الذين تقوم بحمايتهم.
ووصل التصعيد السياسي التركي إلى حد تحديد ساحة العمليات بمرحلتها الأولى، فتم تحديد منطقتين غرب الفرات في الريف الحلبي.
كانت الدفاعات الروسية خجولة في وجه القصف التركي، الذي مهد قبله بإغلاق المجال الجوي للطيران العسكري الروسي وأغلق المضائق البحرية، فعزل الأسطول الروسي الموجود في البحر الأسود عن أي إمداد له من القطع البحرية الموجودة في البحر الأبيض المتوسط في قاعدة طرطوس.
كان الدبلوماسي الروسي الماكر لافروف، يعرب عن تفهمه للضرورات الأمنية التركية ويعطي أضواءً خضراء بانكسار قوة عظمى لمناطق سيطرت عليها بسياسة الأرض المحروقة، في محاولة منها لابتلاع كامل الجغرافيا السورية، ووضع طبق روسي وحيد على أي طاولة للحل، وتوزيع كؤوس الفودكا على نخب الحل البوتيني مع ابتسامات على شفاه الحاضرين توحي بانكسار أمام ارادة الحل البوتينية الفولاذية.
أتى الوفد الروسي إلى أستانة وهو يحمل على كاهله أعباء التورط في المستنقع الأوكراني، وهو يدرك أن حبل الناتو الملفوف على عنقه لن يتم شده بسرعة حتى لا يموت واقفاً على قدميه بل يتم إحكام الحبل وشده ببطء حتى تموت كل أجزاء الجسد الروسي وخاصة الأظافر والأنياب التي كان يهدد بها جيرانه، وتجفيف الدماء الغازية والنفطية التي تغذي الجسد، وعندما يتحقق ذلك سيتم شد الحبل نهائياً وخنقه، ولن يكون إكرام الميت دفنه عند الناتو بل ترك الجثة في العراء لتتفسخ وتنهشها الكلاب، وذلك كدرس للتنين الصيني الذي ينتظر نتيجة العراك في أوكرانيا للانقضاض على فريسته التايوانية.
يدرك الروس أن التركي بإمكانه إرخاء الحبل عن عنقه وتركهم يتنفسون من الرئة التركية التي لم تطبق العقوبات الغربية عليها، ومازالت تفتح أبواب الاناضول لهم وذلك بعكس الغرب الذي أغلق أجواءه كلها في وجههم، بحيث لم يتمكن لافروف من الوصول إلى صربيا لرفض ثلاث دول أوربية مروره في أجوائها.
أتى التركي إلى أستانة 18، وقد أنجز كل مصالحاته بالجنوب مع مصر والسعودية والإمارات ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ولم تمر العلاقات والمصالحات بمراحل التهدئة والتبريد بل قفزت فوراً لتبادل الزيارات على أعلى المستويات، وكان العناق الحار ومراسم الاستقبال الأسطورية توحي أن طبخة أمنية دفاعية جاري الإعداد لها، بدأت تفوح رائحتها وباقي بهارات الهمبرغر الأمريكية في بمنتصف الشهر القادم لنضوجها وتقديمها للعالم.
وجاء الوفد التركي إلى أستانة 18، والتنافس القطبي على أشده على استقطابه وإن لم يكن ذلك فإن الوقوف في خط المنتصف لا يزعج القطبان باعتبار أن أرض الأناضول ضرورية لنزع الصواعق النووية أو غير تقليدية بين الطرفين، بل إن دور الإطفائي المتوافق عليه من متطلبات إخماد أي نار يرغب الطرفان بإخمادها، كما يتم الآن بإخراج الأتراك للقمح الأوكراني لإطعام الأفواه الجائعة حول العالم.
أتى الوفد الإيراني إلى أستانة 18، وهو في حالة وهن غير مسبوقة
حاول أن يعترض على العملية التركية في سورية بتصريح رسمي صادر عن ناطق باسم الخارجية، ولم نسمع شيئاً من مستويات أعلى.
وصل الوفد الإيراني إلى نور سلطان وأصوات الجماهير الإيرانية الغاضبة تهتف في كل مكان الموت للديكتاتور.
لم تكتف إسرائيل بعد اليوم بحرب رمادية، بل أعلنها رئيس وزراء دولة الاحتلال، إن الأخطبوط الإيراني لا يموت بجرح أو قص أذرعه، بل بالضرب على رأسه.
وبدأت طهران تعيش على وقع اغتيال يومي، وبطرق مختلفة، لنخبة ضباط الوحدة 840 التابعة لفيلق القدس، المسؤولة عن تنفيذ العمليات السرية في الخارج، وعلماء تطوير محركات الصواريخ والطيران المسير والعلوم النووية، إلى جانب الحرب السيبرانية في كل مفاصل المؤسسات الإيرانية.
إن انقطاع الموارد المالية الموعودة من اتفاق نووي كان قاب قوسين أو أدنى، أدى بالحكومة الإيرانية إلى رفع الدعم عن المحروقات والخبز.
إن الحكومة الإيرانية غير قادرة الآن على تأمين الرغيف بيسر وسهولة للمواطن، ولا تكفي كميات القمح المخزنة لديها إلا لأسابيع، وأسعار القمح العالمية تحلّق عالياً.
خارجياً إيران في عزلة خانقة بضعف حليفها الروسي، وخاصة على الأرض السورية وإحكام الحصار حولها إقليمياً بهيئة دفاع إقليمي سيعلن عنها قريباً، وخروج العراق من يدها وأمام عينيها، بعد فشلها بتشكيل حكومة موالية لها في بغداد، ودعوة رئيس وزراء العراق ليكون أحد المدعوين للقاء القمة في الرياض 9+1، دول مجلس الخليج العربي ومحور الشام الجديد إضافة لرأس السلطة العالمية الولايات المتحدة الأمريكية.
بحيث انتقلت الأحداث في عهد الرئيس بايدن من اتفاق دولي مع طهران، إلى اتفاق أمريكي مع أعدائها وفي عاصمتها اللدودة الرياض.
انتهاء حقبة أستانة
حتى نخرج من أسطوانة انتقاد أستانة، فقد انتقدناها بما فيه الكفاية، وآن لنا أن نعي ما تركته تلك المرحلة، مع علم الجميع أن لا وفد المعارضة ولا وفد النظام كانا أكثر من ديكور للإيحاء أن المسار يخص سورية.
استفادت الدول الثلاث من المسار وخسرت الثورة السورية، إنما لا يمكن وضع الضامنين الثلاثة بالتأكيد في نفس السلة، فقد كانت الحرب بالوكالة بينهما على أشدها وكانت الدولة التركية هي الداعم الرئيسي (إن لم يكن الوحيد) للثورة السورية عند خروج المسار إلى الحياة، فيما كانت إيران وروسيا الحليفان الصلبان للنظام.
كانت فكرة إنشاء المسار قد نبعت بعد سقوط حلب وخروج فصائل الثورة منها، ولتفادي اشتباك مباشر بينهم تم بموجبه تقسيم مناطق السيطرة بين النظام والثورة.
حاول الروس إعطاءه بعداً سياسياً، فكانوا يضمنون بياناته الختامية بعبارات سياسية محاولين بذلك إلغاء مسار جنيف الأممي وفرض مسار أستانة كبديل له، وكان كل مرة تحضر بعض الأطراف بصفة مراقب وبحضور المبعوث الأممي للملف السوري.
وكان الترهل الدولي وعدم وجود رغبة أو إرادة دولية بحل حقيقي عبر مسار جنيف المستند لقرارات الشرعية الدولية، وكان الجميع غير معترض على دور روسي رئيسي في الحل السوري، الا أن الروس لم يكتفوا بدور رئيسي فحاولوا ابتلاع الجغرافيا، وفرض حل روسي، ولم يتمكنوا من ذلك.
إن العزلة الروسية والانكفاء إلى الداخل الروسي هو مسألة وقت لا أكثر، والانكفاء الإيراني سيتزامن معه ويمكن أن يتأخر قليلاً عنه، وبالتالي أصبح مسار أستانة من مخلفات حقبة ماضية ولا يصلح لحقبة ما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وموت الاتفاق النووي وتشكيل ناتو شرق أوسطي تحت مسميات مختلفة.