fbpx

الصّدمة

0 82

فُقدت أخبارُه، سأل أقاربه عنه. لم يُعرف له مصير. الجميع مشغول بهمومه.. تتالت الحكايا.. تناساه بعضهم، ونسيه آخرون في غمرة أحداث تحمل كلّ يوم أنباء همّ جديد.

عاد أحمد في إجازة ليبحث عن أخيه ويرمّم بيتهم. راجع مكاتب المسؤولين مرات ومرات ولم يظفر بجواب… انتهت المدة المسموح له بمغادرة دولة الخليج التي يعمل بها، ولم يكمل سنوات الإقامة المحددة لدفع البدل النقدي فالتحق بخدمة العلم كغيره من الشباب.

صبيحة يوم شتوي تعربد ريحه، وتتكاثف غيومه، ويلوذ الناس من لسع برده وجد أبو حسان “موفقاً” مرمياً على قارعة الطريق فاقد الوعي، وثيابه ممزقة يعلوها الطين. أثار منظره استغرابه وتساؤله. وضعه في مقطورة جراره الزراعي، وحمله إلى بيت عمته شبه ميت.

تفاجأت به.. حملته إلى الداخل هيكلاً عظمياً.. ألبسته ثياباً نظيفة ووضعته قرب المدفأة. بدأت علامات الحياة تسري في أوصاله.. فتح عينين غائرتين.. سقته شراباً ساخناً.. انتشرت الحمرة في خدّيه.. سألته: أين كنت؟ أخرج لسانه وحرّك سبابته والوسطى بحركة مقص.. فهمت… تركته ينام علّه يرتاح مما يعاني.. بعثت رسالة تخبر أحمد أنّ أخاك عاد…

طلب إجازة وأسرع بالعودة، لم يصدق عينيه وهو يضم أخاه إلى صدره.. تحسس جسمه.. كشف عليه.. آثار التعذيب ما زالت شاهدة على المعاناة والألم الذي قاساه. حمداً.. عاد إلى البيت حيّاً. زوّره الطبيب ليتأكد أنه سليم معافى… وعاد من حيث جاء بعد أن طلب منه أن يكتب في كراسة ما حصل معه. 

أخي، سأروي لك كل شيء بإيجاز، فأنا لا أحسن الكتابة، ولا أستطيع أن أشرح كل ما مررت به. ذهبت إلى العاصمة. توقفت الحافلة أمام حاجز، صعد عنصر مقطب الجبين وسأل: مَن موفّق المحمود؟ رفعت يدي. تعالَ.. واقتادني إلى مقر القائد.. هذا هو..

– أنت موفق المحمود؟

– أشرت برأسي.. نعم

– ماذا تعمل؟

– حرّكت يديي، أشرت أني أعمل بالأرض 

– ماذا تقول؟ تكلم…

– أشرت إلى لساني، وأني أستطيع الكتابة

– ليس لك لسان؟ وأغمض عينيه، وبقرف قال: خذه.. حوّله إلى الجهة الطالبة…

تمنّيت لو سمح لي أن أشرح…

حوّلوني إلى مكان لا أرى فيه النور إلا في غرفة  التحقيق، سألوني عن شباب لا أعرفهم، وعن أمور لم أسمع بها، دون رحمة، عاملوني كحيوان يخضع للتجارب، لم يصدقوا أني لا أتكلم. بعد حفلة التعذيب، كنت أصحو معلقاً من يديّ وأحياناً من رجليّ. شرّبوني بولي، ومرّغوا وجهي بالقاذورات، وأصعبها شتم والدي ووصفه بالنذل والقوّاد والديّوث، وأمي بالمومس والعاهرة. كنت أتمنى الموت قبل أن أسمعها حتى جاء طبيب وأثبت عجزي عن الكلام، وصغر سني فنقلوني إلى مكان آخر، ثم أفرجوا عني، وحملوني في سيارة معصوب العينين ورموني في الطريق فاقد الوعي.

تعافى موفّق، ورجع إلى أرض اشتاق لرائحة تربتها، ولملمسها، ولحراثتها وزارعتها، وتواصل مع أحمد يومياً عبر رسائل الهاتف ليطمئن عليه، تعلّم من تجربته معنى التشبث بالحياة، والخوف من المفاجآت.

لم تتركه المفاجأة. قصف العدو موقع أحمد.. نقل التلفاز صوراً لوحشية ما حدث.. دمار هائل، ودماء منثورة، وأشلاء مبعثرة.. تذكّر كيف اجتاح الدواعش بيتهم، وقتلوا أباه وأمّه وأخوته بلا رحمة، وكيف تدفّق الدم فوّاراً وغطّى الأرض، وفقد صوته وهو واقف خلف ستارة حجبته عن عيونهم فنجا.

تعرّف إلى جسد أحمد ممزقاً من لون قميصه، كانت الصّدمة قوية حادة، وكاد يُغمى عليه. وفي صبيحة اليوم التالي وقف أول المستقبلين لجثمان الشهيد، ولما وصل قربه أحسّ كأنّ تيار كهرباء صعقه فصرخ آهٍ يا أخي، كيف أعيش بعدك؟ قل: أما زلنا نحتفظ بحق الرّدّ؟

صرخته، وسط تهاليل وزغاريد وطلقات تودّع الضحية، أثارت انتباه الجميع.. فُكّت عقدةُ لسانه…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني