الصراع على أوكرانيا (2)
في محاولة لتوضيح جوانب الفرضية التي طرحتها في الجزء الأول حول كون أوروبا هي الأولوية الدائمة على قائمة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، أعرض هنا أبرز الأهداف الاستراتيجية التي سعت الولايات المتحدة لتحقيقها، بما يَضمن بقاء أوروبا تحت مظلة الحماية الأمريكية وسقف مصالحها، وعدم تحولها إلى مركز عالمي منافس على الهيمنة العالمية، طوال القرن الماضي.
القراءة المنهجية في سياسات واشنطن العملية تجاه أوروبا طوال القرن الماضي – خاصة في أبرز المحطات التاريخية، ما بين الحربين العالميتين وفي أعقاب الحرب العالمية الثاني مباشرة، وخلال الحرب الباردة الأولى حتى 1991، والحرب الباردة الثانية، بين 1996-2022، تبين تمحور سياسات الولايات المتحدة حول تحقيق مجموعة أهداف متكاملة، تضمن نتائجها استمرار سيطرة الولايات المتحدة على أوروبا، كأولوية رقم 1 في استراتيجيات سياساتها الخارجية.
1- منع توحد أوروبا، سواء في دولها الست الرئيسة (فرنسا – ألمانيا – بولندا – رومانيا – روسيا – أوكرانيا)، أو في توافق وتكامل دولتيها الرئيسيتين، روسيا وألمانيا، وبالتالي الحيلولة دون تحولها إلى قوة مستقلة، ومركز عالمي، يمتلك جميع مقومات منافسة الولايات المتحدة على مركز الزعامة العالمية، ويؤدي إلى تحجيمها داخل مياهها الإقليمية؛ ولا فرق في ذلك أكانت تلك الدول على النموذج الديمقراطي الأمريكي أو غيره!! لا بل إن ما حققه الاتحاد الاوروبي بمنظومته الديمقراطية الحالية من نجاحات على جميع المستويات شكل قلقاً استراتيجياً دائماً في واشنطن[1]، كانت سياسات وممارسات الرئيس ترامب أكثر وضوحاً في التعبير عنه؛ رغم عدم خروج سياسات دول الاتحاد عن مظلة الحماية والمصالح العليا للولايات المتحدة، حتى عندما تتعارض مع مصالحها الخاصة.
قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وخلال فترة الحرب الباردة، ساهمت سياسات الولايات المتحدة على الصعيدين العسكري والسياسي، بتكريس تقسيم أوروبا على أسس إيديولوجية إلى معسكرين متواجهين، ديمقراطي وشمولي، وبما يبقي روسيا وألمانيا في حالة صراع وعداء تاريخي.
أ- على الصعيد العسكري، لم تعمل الولايات المتحدة على إعاقة تقدم جيوش ستالين الى قلب أوروبا، وقضم جزء من ألمانيا في المرحلة الأخيرة من الحرب رغم وضوح هزيمة جيوش هتلر، أو فرض انكفاء قواته داخل حدود بلاده، في نهايتها؛ وكانت الدولة النووية الوحيدة في العام، وكانت قادرة على فرض إرادتها السياسية على ستالين بمجرد التهديد به!!
ب- على الصعيد السياسي/الاقتصادي، كانت النتيجة الرئيسية للاتفاقيات السوفياتية/الأمريكية البريطانية، أو اتفاقيات واشنطن وشركائها الغربيين، التي قادتها واشنطن في نهاية الحرب، هي شرعنة الحصص التي حصل عليها ستالين في أوروبا، والتي لم تكن بالواقع تعكس موازين القوى العسكرية القائمة، وتعميق عوامل الانقسام التاريخي في أوروبا!.
بغض النظر عن نجاحات أو إخفاقات مؤتمر بريتون وودز الذي عقدته واشنطن في 1994، والذي وضع قوانيناً، وأنشأ مؤسسات النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، فقد عمق التناقض السياسي بين دول أوروبا، وعزل شرقها السوفياتي عن مسارات التطور الأوروبي، وبما يعزز انقسام أوروبا السياسي.
علاوة على ذلك، يبدو جلياً اليوم أن الهدف الأساسي الأمريكي لقمة يالطا السوفياتية، شباط 1945، وما تمخض عنها في اتفاق الثلاثة الكبار، روزفلت وستالين وتشرشل، لم يكن وضع أسس حقيقية لقيام نظام عالمي جديد، يضمن سلام وأمن الجميع، ويحقق شراكة فعلية، ويمنع تكرار ما حدث من حروب مروعة خلال الثلاثة عقود الماضية، أزهقت أرواح حوالي ثمانين مليون أوروبي، بل كانت النتيجة الوحيدة تقسيم العالم إلى معسكرين متصارعين على النفوذ والثروات العالمية، وتهيئة المسرح العالمي لحروب جديدة، تُعمق الانقسامات الاوروبية!![2].
في أعقاب نهاية الحرب الباردة 1991، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وتشكل النظام السياسي الرأسمالي الجديد في روسيا، كانت الولايات المتحدة أمام فرصة تاريخية، سعت للوصول اليها طيلة عقود الحرب الباردة، لدعم جهود بناء نظام ديمقراطي، أقرب إلى النموذج الأوروبي، وله كل المصلحة في تعزيز علاقات تشاركية متبادلة مع دول الاتحاد الديمقراطية، بما يصنع عوامل استقرار وازدهار طويلة الأمد في أوروبا، لكنها مارست عن سابق إصرار ووعي العكس؛ وكانت النتيجة نظام بوتين القيصري، المعادي للديمقراطية، والعاجز عن تحقيق انسجام أوروبي، بل وأكثر من ذلك، الذي أصبح يشكل تهديداً نووياً في قلب أوروبا.
أبين في الأجزاء القادمة طبيعة الجهد الفارق الذي بذلته إدارة بيل كلينتون خلال مرحلة تفكك الاتحاد السوفياتي وتشكل النظام السياسي الروسي الرأسمالي الجديد، بين 1990-1999، لمنع قيام نظام ديمقراطي، قادر على بناء مقومات دولة عظمى على الصعيد الروسي، وبناء أوثق علاقات الوفاق والتعاون مع الجوار الديمقراطي الأوروبي، كما تؤكد حيثيات غزو أوكرانيا، ونتائجها الكارثية على العلاقات الروسية الأوروبية!.
2- إبقاء أوروبا الديمقراطية ودول الاتحاد الاوروبي بشكل عام، مطوقة بمراكز تهديد استراتيجي وتكتيكي دائم، تذكرها بحاجتها لحماية الولايات المتحدة!!.
لقد نجحت ترتيبات واشنطن في نهاية الحرب العالمية الثانية، وخلال معارك الحرب الباردة اللاحقة في خلق نظام عالمي ثنائي القطبية، يضمن تطويق أوروبا الديمقراطية، حليفتها، بحلقتين من القوى الشيوعية، المتناقضة سياسياً وإيديولوجياً معها!.
حلقة داخلية، شكلتها أنظمة الدول الأوروبية داخل المعسكر الشيوعي السوفياتي، وحلقة خارجية، تضمنت أنظمة الصين وكوريا الشمالية!.
مع نهاية الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة كقطب عالمي وحيد، مهيمن، تركز جهد الولايات المتحدة لإبقاء حلقات التهديد الاوروبي، رغم التغييرات الاستراتيجية الكبرى!.
حرص واضح على بقاء الصين وكوريا الشمالية (وقد يفسر هذا أهم أسباب فشل جهود إعادة توحيد كوريا، رغم ما حققته من تقدم، والحرص على بقاء اليافطة الشيوعية للنظام الصيني، بما يعزز الدعاية الأمريكية التي تجعل منه عدواً استراتيجياً، رغم كونه نظام رأسمالي، وأحد شركاء الولايات المتحدة الرئيسيين)، في الحلقة الخارجية، ودفع العلاقات مع روسيا الرأسمالية على مسارات توتير واحتواء وتحجيم، تحول دون تعزيز مسارات تطورها الديمقراطي، وتمنع تقاربها مع أوروبا؛ بما يضمن استمرار منظومة التهديد الأوروبي الداخلية وأسباب بقاء روسيا ضعيفة، التي يشكلها اليوم نظام الرئيس بوتين، وحلفاؤه في بيلاروسيا!.
[1]– يقول هنري كسينجر في مذكراته كسينجر في البيت الأبيض، المجلد الثاني، ص 146، اقتباساً من دراسة لمجلس الأمن القومي:
سنجد أنفسنا وعلى المدى الطويل وجهاً لوجه أمام أوروبا موسعة، مكونة من سوق مشتركة، من عشرة أعضاء على الأقل، مع بلاد محايدة، تجمع أوروبي للتبادل الحر، يُقيم علاقات تجارية تتميز به (خاصة به)، مع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط والقسم الأكبر من إفريقيا.
سيؤمن هذا التجمع نصف التجارة العالمية، في حين أن مساهمتنا في هذا التجمع لا تتجاوز 15%، وسيمتلك هذا التجمع احتياطاً نقدياً يساوي ضعف ما لدينا تقريباً، ويصبح قادراً في الوقت نفسه على جعلنا وبصورة دائمة في رتبة الأقلية ضمن التنظيمات الاقتصادية الدولية.
يتابع في الصفحة التالية:
إن توسع واندماج الإتحاد الأوروبي المستقبلي كان يشغلنا، وكنا نتابع خطاه أحياناً، ولاسيما في الستينيات، بحرارة تفوق ما لدى الأوروبيين أنفسهم. إن أولوية مصالحنا في أوروبا كانت السياسة المسلم بها، وكنا لا نستبعد أي حل يهم بريطانيا العظمى ما عدا دخولها في السوق الأوروبية!.
[2]– في نفس المصدر السابق، أشار كيسنجر إلى استغراب رئيس وزراء بريطانيا العظمى من عدم استخدام الولايات المتحدة لدبلوماسية القوة لفرض شروط سلام دائم على ستالين في أوروبا في أعقاب الحرب:
اعتبر تشرشل أنه من خلال المفاوضات يستطيع الغرب الوصول إلى أهدافه بشكل أسرع والتمكن من الحسم. حيث ذكر في العام 1948 أن الغرب لن يتمتع بمركز مفاوض أكثر من هذه اللحظة. إذ اعتبر أن الغرب الذي يمثل الديمقراطية كان لدية قدرة قوية في التفاوض وأن الانتظار والمماطلة يضعفان هذه القوة. حيث قال: لا ينبغي لنا أن نسير منكفئين، نتمهل مقلب الأمور، والذي أعنيه منقلباً شيئاً لنا. ومن الراجح للأمم الغربية أن تدرك تسوية نهائية، من دون إراقة دماء، لو صاغوا مطالبهم العادلة، وفي وقت يتمتعون فيه بالقنبلة الذرية وقبيل أن يمتلكها الشيوعيون الروس أيضاً. ومعنى ذلك أن تشرشل اعتبر أنه طالما هناك تفوق لأمريكا على الاتحاد السوفياتي، فكان من الأجدر بها إدراك تسوية معها حيث اعتقد أن في المفاوضات سبيلاً لمعانقة القوة بالدبلوماسية. (كيسنجر).
ما يؤكد رفض الولايات المتحدة لسياسات التقارب بين روسيا وأوروبا، والحرص على بقاء أوروبا مقسمة هو ما ذكره كيسنجر أيضاً من استهجان الولايات المتحدة لطروحات ستالين نفسه حول الأمن الأوروبي!! يقتبس كيسنجر في الصفحة 142 من مذكرات ويلي براندت مستشار ألمانيا الاتحادية حينئذ، معبراً عن عدم فهم براندت ورئيسه لملاحظة الرئيس نيكسون حول اقتراح ستالين، التي تتضمن رفض فكرة ستالين، التي وجدها نيكسون خطيرة لأنها ستؤدي إلى تعديل دورنا في أوروبا!.
أما المطلوب بالنسبة لنيكسون فهو مؤتمر للوحدة الأوربية، يتحقق ضمن أسس مختلفة جداً عن مضمون فكرة التوافق الأوروبي الستالينية.