fbpx

الصراع الطبقي.. جحيم الإنسانيّة.. قراءة في فيلم (The Plat form)

0 21

هناك ثلاثة أنواع من الناس: من هم في الأعلى ومن هم في الأسفل ومن يسقطون. هذه العبارة التي جاءت في الدقائق الأولى من الفيلم الإسباني العالمي “المنصّة” لخصت فكرته الرئيسة حيث تنامى الصراع الطبقي وأحكمت الطبقات العُليا من المجتمعات الرأسمالية قبضتها بحيث لم يعد هناك مِن “صاعدين” وإنما فقط “من يسقطون”.

يتناول الفيلم التفاوت الطبقي عبر عاَلمٍ موازٍ توجده مؤسسة كبرى معنيّة بالأبحاث الاجتماعية، يتكون هذا العالم من بناء طويل يسكنه قرابة ألف نسمة مكون من مستويات تمثل طبقات المجتمع، وفي كل المستويات هناك حفرة في الأرضية تهبط خلالها وبشكل يومي طاولة طعام، تتوقف لفترة بسيطة في كل مستوى ويمنع أخذ شيء منها بحيث سترتفع درجة حرارة المستوى إلى حدٍّ قاتل إن حدث ذلك. والمشكلة تكمن بالجشع الإنساني حيث القابعون في المستويات العُليا يأكلون أكثر بكثير من حاجتهم ويعتادون التهام الكثير حتى يصيبهم الشبق. فلا يتبقى شيء لمن هم في المستويات السُفلى.

ترمز الطاولة إلى الموارد والخيارات والاحتياجات الإنسانية، وتصل فارغة دوماً إلى أدنى المستويات مما يضطر الناس هناك لأكل بعضهم البعض كي لا يموتوا جوعاً، ومع الزمن تتوحش نفوسهم ويفقدون إنسانيتهم.

يسعى بطل الفيلم “غورينغ” وهو يرمز للشريحة المثقفة إلى تغيير واقع الحفرة بطرق مختلفة ساعياً لإقناع سكان الطبقات العُليا بعدم التهام ما يفوق حاجتهم، لكنه يفشل لكونهم حريصين على تكديس الدهون في أجسادهم خشية أن تجعلهم الأقدار مكان سكان الطبقات السفلى يوماً ما، خاصة وأن النزر اليسير منهم كان يعيش في تلك الطبقات في فترة سابقة.

اتسم فيلم “المنصّة” الإسباني بالقسوة حيث كثرت فيه المشاهد التراجيدية والدموية، وعرض الممارسات العنيفة التي تقع فيما يسمى بـ “قاع المدينة” أي بين الشرائح الأكثر جهلاً وفقراً في إشارة إلى مُعدلات الجريمة المرتفعة في الدول التي تحكمها أنظمة رأسمالية، كما خُصصت مشاهد عديدة للتعبير عن الخداع الذي تمارسه الطبقات العُليا بهدف إدارة الصراع الطَبقي، حيث لا هم يتركون للطبقات الدنيا ما يكفيها ولا هم يسمحون لأحد منها، بالصعود إلى مستواهم.

مع تصاعد الصراع النفسي الناتج عن تورط “غورينغ” في ممارسات لا إنسانية تحت ضغط ظروف قسرية، يشعر أنه لا مناص من التضحية في محاولة لفرض نظام جديد، وبرغم كون نظام المؤسسة التي تدير المكان والذي يرمز إلى “التشريعات والقوانين” في عالمنا، كان يوجب على الأفراد إعادة كل ما أخذوه من الطاولة بمجرد مُغادرتها للمستوى الذي يخصهم، لم يمنع ذلك الأمر، الناس من الادخار داخل أجسادهم عبر تكديس الدهون والذي يرزم إلى الطمع (كنز الأموال) والالتفاف على القوانين.

يُشير الفيلم عبر “التناص” المدروس والموظّف مع “الكتاب المقدس”، في المونولوجات التي أسهمت بتطور شخصية “غورينغ”، يُشير الفيلم إلى كون الطمع والصراع الطبقي ظاهرة قديمة حاولت الديانات التصدي لها، وبرغم ذلك وصلنا اليوم إلى درجة مخيفة منه.

ينحو كاتبا الفيلم “ديفيد ديسولا” و”بيدرو ريفيرو” إلى استخدام العنف كجزء من الحل، خلال نضال “غورينغ” الثوري وهذا يحيلنا إلى سؤال، هل حولت الأنظمة الرأسمالية شعوبها إلى مجتمعات تنافسية أفرادها أنانيون انتهازيون تحكمهم النظرة النفيعة لذواتهم على حساب كل شيء؟

ينتهي الفيلم دون أن نعرف هل أثمر نضال “غورينغ” ورفيقه المُسلم “بهارات” الذي أدى دوره الممثل “إميليو بوال كوكا“، أم لم يثمر.. بعد أن ضحّى بنفسه مُختاراً الهبوط إلى أدنى طبقات المبنى والتي ترمز إلى قاع المدينة، وفي مشهدٍ مُعبر مُتقن يُظهر مخرج الفيلم “غالدير غاستيلو أوروتيا” القاع كمساحة لا منتهية تسودها الظلمة، باستثناء بصيص ضوء قادم من الأعلى.

يغادر “غورينغ” الطاولة التي هبط معها ويدخل في الظلام بعد أن تلطخت يداه بدماء كثيرين مُضطراً.

ويترك الطفلة التي أنقذها لتصعد وحدها باتجاه الضوء في إشارة إلى أن كل أشكال النضال يجب أن يتم تسخيرها كي تنجو الطفولة التي تجسد مستقبل البشرية، وإلى كون الرهان والأمل يكون دوماً على جيل جديد لم يلوث بعد.

ومن اللافت أن “غورينغ” لم يرد أن يكون القائد المنتصر ولم يُرد أي مقابل لقاء بسالته ونضاله، بل أدرك أنه لم يعد جديراً بالضوء فالصراع المستمر والكبير مع الشر يلوثك، ومن هنا آثر عدم الصعود مع الطفلة باتجاه الضوء، بل وشعر أنه أصبح كائناً ظلامياً فانسحب باتجاه الظلام، يلوذ بالعزلة مُثقلاً بجراجه. وهذا يُحيلنا إلى الظاهرة التاريخية، حيث النزر اليسير من الطغاة كانوا في بداية الأمر مناضلين وثواراً، ثم مارسوا الوصاية شيئاً فشيئاً وتحولوا إلى طغاة.

على الصعيد الفني جاء فيلم “المنصة” عملاً سينمائياً له خصوصيته حيث تألق البطلان الثانويان “زوريون إجيليور” بدور “تريماغاسي” و”أنطونيا سان خوان” بدور “إيموغيري” وفاق أداؤهما أداء الممثل الذي أدى دور البطولة “إيفان ماساغي”. كما عمد مخرج الفيلم وبنسبة بسيطة إلى “الخطف خلفاً” وشكّلت الإضاءة مُرتكزاً له بسبب نمطية المكان حيث كل طبقات المبنى مُتَماثِلة وتُجسّد كل منها غرفة شبه خاوية، كما استثمر الإضاءة كجسر إلى جوانيات “غورينغ” الذي أصابه شيء من الذُهان، ولم يكن هناك حضورٌ يُذكر “للموسيقى التصويرية”، وعلى الصعيد الدرامي اتسم التصاعد الدرامي في النصف الأول من الفيلم بالتزامن مع التصعيد لجهة الطرح الفكري، واستطاع المخرج ببراعة رفع عتبة التشويق في الربع الأخير من الفيلم، ومن جهته حافظ الكاتب على تطور ذهنية شخصية البطل حتى المشاهد الأخيرة حيث لم يَشغل توهّج الحدث والمعاناة الناجمة عن ذلك “غورينغ” عن التأمل وإعادة النظر المُستمرة فيما أزمع على القيام به.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني