fbpx

الشمس تُشرق من الجنوب مُجدّداً

0 2٬281

ظَنّ الأسد أنّ التاريخ سيعيد نفسه، أو أن باستطاعته إعادة عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء، واعتقد أنّ وصفة أبيه في حماة يّمكن أن تكون ذات جدوى مرة أخرى، فقد ارتكب الأسد الأب مجزرته الشهيرة في حماة لتركيع السوريين لقرنين من الزمن تدين به سوريا صاغرة لحكم عائلة الأسد.

لكنّ الطغاة الذين تُعمي القوة بصيرتهم وأبصارهم لا يريدون التعلم من التاريخ، فكم من الأباطرة والطغاة سحقتهم شعوبهم بثوراتها وداست عليهم بأحذيتها وألقت بهم في مزابل التاريخ.

قتل الأب خمسين ألف مدني حموي في بضعة أيام وبهمجية نادرة، ومع ذلك لم تتأخر انتفاضة الشعب السوري أكثر من ثلاثة عقود حيث حمل الجيل الثاني راية المقاومة لسحق الأسد الابن والدوس على نظامه بأحذيته والتخلص من الإرث الأسدي الرثّ الذي غَيّر وجه سورية الحضاري من دولة ناهضة تتطلع للمستقبل إلى دولة الخوف والجوع والمخدرات.

استخدم الأسد لقمع الثورة مالم يكن يتصوره عقل، لم يترك أياً من أدوات القوة والتنكيل إلا واستعملها بدءاً من السلاح الأبيض والقتل بالفؤوس والسكاكين والحجارة مروراً بالبراميل المتفجرة الغبية وانتهاءً بالأسلحة الكيماوية (ولو كان يملك سلاحاً نووياً لاستخدمه)، واستخدم سلاح الحصار والتجويع بأبشع صوره وأقسى حالاته.

كان سلاح المجازر المتنقلة ومشاهد التعذيب الفردي القاسي وتصويرها وتسريبها إحدى وسائله القذرة لكسر إرادة السوريين وإرجاعهم إلى بيت الطاعة.

وكان سلاحه القديم الجديد، الاعتقال والخطف والتغييب القسري لإرهاب العائلات والمجتمع، الذي تَسبّب في فقدان عشرات الألوف من السوريين (ولايزال مصيرهم مجهولاً)، أحد أسلحته في قمع الثورة الشعبية ضده.

وكان أن وضع معادلة منذ اليوم الأول بإشراك الإيرانيين والروس معه في المعركة على شعبه، وكان هو البادئ بفتح الأبواب للتدخلات الخارجية وليس خصومه، في رسالة مفادها أنّ من يريد هزيمته عليه هزيمة روسيا وإيران أولاً.

ولم يكتفِ نظام الأسد (الأب والابن) بالاستعداد لحربه على الشعب السوري فيما لو أراد المطالبة بحريته ببناء جيش عرمرم مُدجّج بكل أنواع الأسلحة، بل وسعى باكراً إلى تفتيت البنية المجتمعية السورية من الداخل كان من نتيجتها إقامة نظام حكم طائفي بغيض يتستر تحت واجهة حزب البعث وشعارات الوحدة والعروبة وتحرير فلسطين، وأثمرت جهود العقود الأربعة في بناء حاضنة اجتماعية ساحلية صلبة كانت الرافد الأهم لموارده البشرية، وبفعل سياسات خبيثة مدروسة بعناية من قبله واستثمار أخطاء خصومه تمكن من تحييد أو استيعاب باقي ألوان الطيف السوري من غير السنّة، بتخويفهم من مصير محتوم سينالهم فيما لو تمكنوا من هزيمته.

كان تسليم الجنوب السوري له من محيط دمشق الى الحدود الأردنية وإفراغ المقاومة منه بقرار دولي تَمّ التفاهم حوله بين روسيا والولايات المتحدة في عام 2018، فهمه الأسد أنه الخيار الضرورة التي لن يستطيع أحد تجاهلها وأن خطته نجحت في منع ظهور أي بديل مقبول له، وأنه يُعامل أمريكياً كالابن العاقّ أو الضالّ، وبمجرّد استعمال إحدى أوراق الضغط عليه يعود إلى جادة الصواب، ويُقدّم الخدمات ويُنفذ ما هو مطلوب منه.

وظَنّ الأسد أنّ الشعب السوري يَئِسَ عن مقاومته واستسلم لفكرة أن هذا النظام مدعوم من الغرب والشرق بل والشمال والجنوب ولا أمل يُرتجى من تحدّيه فكيف في إسقاطه، وأنّ الكمّ الهائل من الجرائم الحربية أو الجرائم بحقّ الإنسانية وتجازوه الخطوط الحمر للدولة الأعظم تَمّ نسيانه أو تناسيه، فكيف لشعب لا يملك من أسباب القوة إلا قبضاته وحناجره وظلاماته وتَوقه للحرية أن يجرؤ على تحديه؟.

ومع توقف العمليات الحربية الكبرى في عام 2020 ظَنّ الأسد أنّ مالم يستطع استعادته من الجغرافيا السورية سيعود بوسائل أخرى وتَكفّل الروس بتجريد الأتراك ما حققوه من مكاسب في الشمال الغربي، وسَيتمّ الاعتماد على اضطراب الرؤية الأمريكية والتردّد الاستراتيجي وعوامل الضغط التي سَتطبّق عليها من إقدام الولايات المتحدة على الانسحاب من شرق النهر (وكان الرئيس ترامب قد ألمح إلى ذلك).

اعتباراً من منتصف العام 2022 بدأت نغمات جديدة تَرد إلى دمشق، وسبقها الملك الأردني بِمدّ الجسور إلى دمشق، كانت تلك النغمات تصدر من عواصم العرب والترك تَصبّ في معظمها باعتبار الأسد أمراً واقعاً وأنه موجود ولإنهاء المشاكل التي صَدّرها للخارج لابُدّ من التطبيع معه.

فهم الأسد أنّ انتصاره على الإقليم قد تحقّق بعد انتصاره (كما يعتقد) على الشعب المقهور والمكلوم، وأنه ربح الحرب وأنّ الجميع يعترف بذلك بل ويخطب ودّه.

كانت ذروة النصر التي وصل إليها الأسد في تحقيق الاختراق في الجدار السعودي وتكلل ذلك بحضوره لقمة العرب في جدة، وبدا أنّ الزعماء العرب قد أطلقوا الرصاصة الأخيرة على ثورات الربيع العربي وأنّ الناجي الوحيد من تلك الثورات وأشدهم إجراماً يتمّ استقباله بالسجاد الأحمر ويتمّ احتضانه بحرارة من أمير العرب وفي أرض الحرمين الشريفين.

توهّم الأسد أنّ انتصاره نهائي وأنّ ابنه حافظ بشار الأسد سيرث عرشه وسيخلفه في جمهورية الرعب الأسدية الوراثية.

نَغّصَ جبل العرب الأشمّ على الأسد أحلام اليقظة الوردية وأعاد خلط الأوراق وأرجع عقارب الساعة إلى عام 2011، بشعاراته الخالدة وفي أبهى صور الاحتجاج السلمي وتحدّي القوة العسكرية الغاشمة، قالت السويداء في الـ 17 من شهر آب الشعب السوري واحد، وسوريا بدها حرية، وسوريا لينا وماهي لبيت الأسد، ويلا ارحل يا بشار.

كانت الصدمة هائلة الوقع على الأسد، وكان السؤال المطروح في أروقة السلطة الأسدية، ماذا سنفعل لتركيع هذا الشعب بعد كل الذي فعلناه؟.

سقطت في لحظة واحدة كل خيارات القوة التي استخدمها طوال أكثر من عقد وتَبيّن عدم فاعليتها ونجاعتها، وكارثة الأسد أنه لا يملك من حلول سوى تلك الأداة الوحشية، لا شيء غيرها وهو يعلم أن ثورة السويداء ليست بسبب رغيف خبز أو صفيحة مازوت، بل ثورة للحرية والانعتاق من الاستبداد، وأنها الموجة الثانية من الربيع السوري والذي اعتقد الأسد وداعموه أنهم أحالوه إلى خريف تساقطت به أوراق الحرية وذبلت غراس المقاومة إلى غير رجعة دون تَوقّع ربيع قادم سيعيد للربيع السابق ألقه وستورق أغصانه وتُزهر براعمه وستنضج ثماره والتي رَوَت أشجارها دماءٌ زكية طاهرة قَدّمت أغلى ما تملك لتستمر الشعلة وتُتَوج بنصر قريب يحرق الجلاد وجلاوزته، وليس ذلك على الله ببعيد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني