fbpx

الروابط اللفظية ودورها في إنتاج الدلالة

0 256

دراسة في قصيدة (خمس رسائل إلى أمي) لنزار قباني

إن فهم بنية النص الشعري وسبر أغوارها وقف على تأمل مكوناته، واستنطاق تراكيبه واستكشاف ما بينها من روابط لفظية /دلالية/ نفسية، تتآزر جميعها في سبيل إبراز المغزى الفكري المشبع بالانفعال النفسي العميق، ومن ثم تتشكل ملامح التجربة الشعرية التي يمكن تتبع أبعادها من خلال الروابط التي تجمع بين أجزائها.

وثمة أمر لفت انتباهي عند قراءة قصيدة (خمس رسائل إلى أمي) لنزار قباني، ألا وهو كثرة الروابط اللفظية، وخاصة حرف العطف الواو الذي تكرر في سبعة وأربعين موضعاً، ما دفعني إلى إعادة قراءة القصيدة أكثر من مرة؛ للوقوف على ما تهيئه من قيم تعبيرية، وكيفية استخدام حروف الربط، إذ تخلق الكلمات في تضامها واتساقها نمطاً يشكل صوراً من أساليب متعددة.

يمثل الربط بأداة العطف وسيلة مناسبة في سياقات القص والتسلسل المنطقي والزمني للأحداث، بالإضافة إلى مناسبتها لتصوير الأفكار والأوصاف المشتركة. 

ويظهر ذلك في قول نزار قباني:

مضى عامان يا أمي

على الولد الذي أبحر

برحلته الخرافيه

وخبأ في حقائبه

صباح بلاده الأخضر

وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر

وخبأ في ملابسه

طرابيناً من النعناع والزعتر

وليلكةً دمشقية..

إن الحديث عن الأم هنا يمثل المعادل الموضوعي لحنين الشاعر إلى الوطن، والمزج بين الأم والوطن في شعر “نزار قباني” يمد تجاربه الفنية بطاقة عـاطفية تجسد تلك الرؤية الحية، حيث تتحول القصيدة إلى ومضة حلم، تمتزج فيها صورة الأم بالوطن، فلا سبيل إلى أن تفصل بين عاطفة الحب نحو الأم، وبـين عاطفـة الشوق نحو الأرض والوطن.

لقد استطاع الشاعر أن يحقق المعادلة الصعبة المتمثلة في اقتران البـساطة بـالعمق ما يزيد الشعر إشراقاً وسطوعاً، دون إغراق في التصوير الغامض، فجاءت عبارات القصيدة عذبة جميلة سهلة سلسة، إلا أنهـا موحيـة مفعمـة بالمعاني العميقة والدلالات ذات البعد الإنساني الشفيف، عبارات مصاغة بحس فني مرهف، يسهم في إحداث التأثير المنشود في القارئ.

أما عن الروابط اللفظية فقد تكرر حرف العطف (الواو) في المقطع السابق سبع مرات، الأمر الذي ساعد على تصاعد بلورة الفكرة وسرد الأحداث، إذ تظهر المشكلة منذ البداية – الرحيل – في لمحة خاطفة تجذب المتلقي، وتدفعه إلى اقتفاء آثارها حتى يقف على تفاصيلها.

ومن ثم يوظف الشاعر الربط/العطف ليرتاد آفاقاً أرحب من حيث التصوير والتعبير، إذ يتيح له تعدد الأصوات والمستويات اللغوية، وارتفاع درجة الكثافة نتيجة لغلبة التوتر والحوارية.

كما يعد العطف أحد مقومات الوحدة التي تجمع بنيات النص المختلفة، ومستوياته الشعورية والنفسية المتعددة، فقد تنامت الأحداث مع تتابع حرف العطف الذي يأتي تكراره لتصوير بعد جديد من أبعاد التجربة، وهكذا نجد أن الدلالة النصية بنية كبرى يسهم في تشكيلها الحرف إلى جانب الجملة كل يؤدي دوره في مكانه الذي لا يسده غيره.

مضى عامان.. يا أمي

ووجه دمشق،

عصفورٌ يخربش في جوانحنا

يعض على ستائرنا.. وينقرنا..

برفقٍ من أصابعنا..

مضى عامان يا أمي

وليل دمشق

فل دمشق

دور دمشق

تسكن في خواطرنا

مآذنها.. تضيء على مراكبنا

تعبق في ضمائرنا

كأن الضوء، والأحجار

جاءت كلها معنا..

أتى أيلول يا أماه..

وجاء الحزن يحمل لي هداياه

ويترك عند نافذتي

مدامعه وشكواه

نلاحظ في المقطع السابق كيف أصبح العطف أحد وسائل الاتساع والإطالة التي تخرج الجملة عن صورتها البسيطة إلى صورة أكثر تركيباً، حيث يربط المكونات الإضافية بالرئيسية، ويظهر ذلك بصفة خاصة في ربط التراكيب بالأفعال.

إن تعدد العطف – هنا – يتناسب إلى حد كبير مع المواقف الشعورية المتتابعة والممتدة وخاصة في حالات الإفضاء النفسي، لأن الاستدعاء يمتد ويطول فيحدث تطهيراً وتفريغاً للشحنة الانفعالية؛ من خلال استرجاع لقطات محفورة في الذاكرة للحظات مازالت حية في أعماقه: ليل دمشق، فل دمشق، دور دمشق، مآذنها، الضوء، الأحجار… جاءت كلها معنا؛ لأنها تسكن جوانحنا!

أتى أيلول.. أين دمشق؟

أين أبي وعيناه

وأين حرير نظرته؟

وأين عبير قهوته؟

سقى الرحمن مثواه..

وأين رحاب منزلنا الكبير..

وأين نعماه؟

وأين مدارج الشمشير..

تضحك في زواياه

وأين طفولتي فيه؟

أجرجر ذيل قطته

وآكل من عريشته

وأقطف من بنفشاه

الواو في المقطع السابق تأتى سابقة لاسم الاستفهام، وهي بجانب دورها في الربط بين هذه المشاهد المتفرقة، تستدعي تلك الصور التي تعيش في الذاكرة ولا تُستجلب إلا بتداعي المواقف والمشاعر.

في ضجة الذكريات يلملم الشاعر هواجسه، يحاور نفسه بعد أن أسدل الستار على زمن لا وجود له إلا في حنايا قلبه، وهذا “المونولوج الداخلي” الذي يستدعيه بالاستفهام يتيح له استدعاء المواقف التي استأثرت به، مع الوقوف عند بعض التفاصيل التي تستقطب طاقته التصويرية، فالاستفهام هو أداته إلى التنبيه في مونولوج داخلي يجسد المواقف التي تضطرم في أغوار الذات.

وبهذا استطاع الشاعر أن يأسر ذهن المتلقي ويشد انتباهه إلى أقصى درجة، لما يحمله الرابط اللفظي (العطف) من تأثير على الأسلوب الإنشائي (الاستفهام) في ترقب يعمل على إحياء الدلالة من ناحية، ويقوى قنوات التواصل من ناحية أخرى.

دمشق، دمشق..

يا شعراً

على حدقات أعيننا كتبناه

ويا طفلاً جميلاً..

من ضفائره صلبناه

جثونا عند ركبته..

وذبنا في محبته

إلى أن في محبتنا قتلناه

رغم رحيله عنها (دمشق) يبثها حنينه وآلامه وأشواقه، مفضياً إليها بسره ومكنون صدره، منادياً عليها – متوسلاً – بأعلى صوته أن ترويه من نبعها الفياض، فهي جنته التي يوقد فيها شموع الأمل، ويقضى في رحابها على كل الأشجان، ولكن هيهات، فمن الحب ما قتل! 

إن المكان في بنية النص الشعري يجسد بناء فنياً موازياً/مناقضاً لحركة الواقع الذى يعايشه الشاعر من خلال تفاعل الداخل مع الخارج في لحظة كشف تنبئ عن طبيعة العلاقة بينهما مجسدة دلالياً/نفسياً في ثنايا التجربة الشعرية.

تقوم الروابط – إذن – بدور مهم في تشكيل بنية النص الشعري وإثراء دلالته، كما تمنح النص انسجامه، وتعمل على تماسكه، إذ لا سبيل إلى استيعاب الدلالة الكلية للنص إلا من خلال مكوناته اللغوية وطبيعة العلاقة بين لبناته، تلك العلاقة التي تتجاوز الإطار المحدود للجملة إلى الإطار العام للتجربة.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني