الخُدْعةُ الكبرى
“الويل للمغلوب”، عبارة دخلت التاريخ من بابه الواسع، والتاريخ – من أسف – لم يكتب بأيد محايدة، إنّه تأريخ المنتصر، ولهذا تحتاج الدراسات التاريخية الحديثة إلى جهد كبير للمراجعة، والمناقشة، والتمحيص، والمحاكمة، والاستدلال والاستقراء، والاستنتاج بإعمال العقل والوجدان معاً كي تصل إلى تصوّر يقرب من الحقيقة التاريخية. فإذا كنّا نعيش التزييف لحقائق تاريخية معاصرة ومعيشة على أرض الواقع عن طريق الإعلام الموجه من إدارات متنفذة وأيد مغرضة؛ فكيف يمكننا أن نثق بالحقائق التاريخية التي وصلت إلينا، وتروي حقائق تاريخية عن قرون عديدة سالفة.
كان السيف، سيف القوة والنبل يصنعان التاريخ، واليوم يصنعه ويرويه الإعلام بعد أن تتكلم به فوهات البنادق والمدافع في المعارك، إنه صوت القوة، القوة المدويّة لا صوت الحقيقة التي تُلوى وتُطمس أحياناً ليعلو صوت الحقيقة الزائفة التي تسطّرها القوة بحبر أقلام المنتصرين وأيديهم.
إن العنف الذي عاشته الشعوب عبر التاريخ لا يقتصر على ما تفعله فوهات الأسلحة، ولا على وسائل الإعلام والمواجهات الدامية، فهو يشمل فيما يشمل الأيديولوجيا التي تتحكم بالعقول والنفوس، وتوجّه السياسات الدولية لتحقيق المصالح المادية وغيرها بعيداً عن الأخلاق وإنسانية الإنسان التي فطر عليها.
ليس هناك من أحد يعادي الدِّين كدِين يدعو إلى المبادئ السمحة والأخلاق الفاضلة، وليس هناك من أحد يقف معادياً أو رافضاً لليهودية كدِين؛ لكنّ الصهيونية صادرت تعاليم اليهودية، وجيّرتها إلى حركة سياسية قومية عنصرية لا علاقة لها بدين سماوي، ولا بأعراف دينية سابقة له.
في العصر الحديث نشأة فكرة الصهيونية كحركة سياسية استعمارية مستغلة الأيديولوجيا الدينية لينقاد السياسيون لجنون القوة المادية، وحب السيطرة، وخرق وتجاوز كل ما هو أخلاقي وإنساني في سبيل تحقيق المطامع الذاتية بتسخير التعاليم الدينية التي اجتثتها الصهيونية لتنشئ حركة سياسية قومية عنصرية تقوم على مبادئ دينية لا علاقة لها بأسس القومية التي نشأت في أوربا في القرن التاسع عشر، وسعت لقيام دولة دينية عنصرية مغلّفة بقشرة الحقوق لشعب بلا دولة على أرض بلا شعب مستخدمة سياسة خدعت بها كثيراً من قادة الشعوب وحكوماتها، وسيطرت على بعضهم من خلال الأموال والمساعدات والهبات والصفقات المشبوهة لتحقيق أغراضها وأهدافها خاصة قبيل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، واستطاعت الحصول من “بلفور” وزير خارجية بريطانيا على وعد بمساعدتها على أن تقيم دولتها العنصرية على أرض فلسطين، وبغضّ الطرف من الدول الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، وفرنسا المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، واعترافها بها تباعاً فور إعلانها قيام دولتها.
وبعد هذه السنوات كلها منذ عام 1948 حتى بدية العقد الثالث من الألفية الثالثة ما زال الخداع قائماً، والأمم المتحدة تحيي يوماً دولياً للكذبة الكبرى، كذبة المحرقة “الهولوكوست” التي ابتدعتها الصهيونية، واستغلت بها المشاعر المناهضة للنازية ضد ألمانيا المهزومة في الحرب لتدفع تعويضات للصهاينة عن مجازرها ضد اليهود، وتسهّل هجرتهم إلى فلسطين.
عُقدت محكمة “نورمبرغ” وقُدّمت الأدلة على أن المحرقة حدثت حقيقة كدليل على وحشية النازيين ولا إنسانيتهم، وذُكرت أرقام خيالية على لسان الشهود في تلك المحكمة بلغت (6) مليون ضحية من اليهود أُحرقوا في أفران الغاز؛ ولكنّ المراجعات والدراسات التي أعقبت تلك المحكمة توقّفت أمام الرقم، والشهود، والتقارير المقدمة للمحكمة لتوازن وتقارن بينها وبين الحقائق المستجدة بعد البحث، وخلص أكثرها إلى:
1- أن الرقم (6) مليون ضحية تراجع إلى (4) مليون، ثم إلى (1.5) مليون وهذا الرقم ليس كله يهوداً، فقد ضمّ الكثير من المعارضين والمناهضين للنازية وفي مقدمتهم الشيوعيون الألمان، والمراجعة قد تثبت الدراسات أن المحرقة بدعة ليس غير، وتنفي وجودها أصلاً. (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية – دار عطية – بيروت ط2 – ص141). والأهم هل تثبت إحصائيات السكان عدد اليهود حينها في دول أوروبا التي سيطرت عليها النازية؟
2- أن الشهود الذين أدلوا بشهادتهم أمام المحكمة أثبتت المراجعات أنهم وقعوا تحت الضغط والتهديد على اعترافات لم يقرؤوها، وبعضهم تراجع عنها مبرراً الأسباب التي أجبرته على التوقيع.
3- أن التقارير المقدمة إلى المحكمة قدمها عسكريون ضباط من دول “الحلفاء المنتصرين”، وليس هناك تقارير من شخصيات محايدة ومعروفة بالنزاهة لتؤكد الحقائق عن المحرقة وعدد الضحايا، وتتأكد من أفران الغاز إن كانت موجودة فعلاً، وأن المحرقة حدثت حقيقة. والسؤال: لماذا تصرّ الحركة الصهيونية على إيهام العالم بوجود المحرقة؟ ولِمَ سكتت وتسكت عنها الدول الغربية؟
بنظرة أولية يمكن استنتاج الإجابة من خلال:
1- إصرار الحلفاء على تصديق التقارير المقدمة لمحكمة “نورمبرغ” استغلالاً لضعف الألمان المهزومين في الحرب، وعدم قدرتهم أو توفر فرصة حقيقية لهم للدفاع عن أنفسهم كمغلوبين.
2- استغلال الحركة الصهيونية ذلك للإساءة إلى النازية وإظهارها كأيديولوجيا وحشية بعيدة عن القيم الإنسانية، وأن النازيين مجرمون لتسهّل أسباب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولتبتز ألمانيا بدفع تعويضات لها عن ضحايا المحرقة للمساهمة في دعم كيانها مادياً.
3- طمس حقيقة عنصرية الغربيين والتغطية على المجازر اللاإنسانية التي ارتكبوها بالإبادة الجماعية لشعوب أمريكا الأصلية، وللمجازر والإبادة للشعوب الأفريقية بقنصها واصطيادها واستغلالها عبيداً في مزارعها، وما ارتكبوه من أعمال وحشية ضد سكان دول أفريقيا وآسيا التي استعمروها، ومجزرتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان.
وحتى اليوم لم تزل الحركة الصهيونية وأتباعها من الشخصيات ذات النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي تضيّق الخناق على كل من يتكلم عن المحرقة، أو يقلل من شأنها، أو يشير إليها بالنفي، وخير مثال الحملة الشرسة التي شنتها ضد المفكر والفيلسوف “روجيه غارودي” الذي فضح كذبة المحرقة وزيفها في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” الذي أصدره بعد أن وضع باقة ورد على مقبرة ضحايا مجزرة “قانا” ووقف شخصياً على بشاعة ما فعله الصهاينة، وتقديمه للمحاكمة تحت دعاية “معاداة السامية”، والتضييق على مناصره الأب “بيير” لأنه وقف يناصره ويناصر حقّه في حرية التعبير التي لا تعجب الصهيونية، وتفسرها معادية للسامية إذا كانت تدين عمل الصهاينة، وتفضح عدوانيتهم، وما يقومون به، وما يمارسونه من استلاب لحقوق الشعب الفلسطيني.
ومع ذلك لا تزال الأمم المتحدة تضع ضمن جدول أيامها الدولية “يوماً لإحياء ذكرى محرقة اليهود” متناسية أو غاضة عن ذكرى مجازر الصهيونية التي ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني باحتلال فلسطين، واستعمارها الاستيطاني للأرض الفلسطينية، وطرد السكان من بيوتهم بحجج واهية، وارتكابها لكثير من المجازر في “دير ياسين وقانا وحيفا وصبرا وشاتيلا…” وآخرها ما ترتكبه في قطاع” غزة “، واغتيالها لكثير من سياسيي ومفكري وأدباء ومثقفي فلسطين النشطاء كياسر عرفات، أبو جهاد خليل الوزير، كمال ناصر، كمال عدوان، غسان كنفاني، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، وأبو علي مصطفى، و…
منذ عام 1948 وحتى اليوم لا تزال دولة الكيان الصهيوني تضع نفسها فوق القانون الدولي والإنساني، وقرارات الأمم المتحدة، وأهمها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3379) في (1975/11/10) الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، والذي عملت إسرائيل جاهدة على التملص منه، وجعلت من إلغائه بموجب القرار (86/ 46) في (1991/12/16) شرطاً للمشاركة في مؤتمر مدريد 1991، لكنّ ممارساتها العنصرية على الأرض مازالت قائمة.
وصدر أكثر من أربعين قراراً من مجلس الأمن تشجب وتدين الأعمال الإسرائيلية، كما يدعوها مجلس الأمن لتنفيذ بعضها، وأهمها القرار رقم (194) في (1948/12/11) الذي ينص على أن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم هي حق لهم…، والقرار (242) في (1967/11/22) الذي ينص على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، وعلى وحدة أراضي كل دولة واستقلالها السياسي ضمن حدود آمنة ومعترف بها، والقرار (497) في ( 1981/12/17) الداعي إلى إلغاء ضم الجولان السوري بحكم الواقع. وكل هذه القرارات تغمض الأمم المتحدة ومجلس أمنها عن ملاحقة إسرائيل للقيام بتنفيذها، فالويل للمغلوب.
وإذا كانت إسرائيل قد استطاعت بقوة اليد الفولاذية الأمريكية أن تلغي القرار (3379) الآنف الذكر فهل تستطيع أن تعمي عيون العالم عن جدار الفصل العنصري الذي يشهد على بربريتها ووحشيتها وعنصريتها تجاه الشعب الفلسطيني. أليس هذا الفصل وترحيل الفلسطينيين مشابهاً لما فعلته النازية باليهود؟ ثم أليس ما تقوم به معاداة للسامية التي تتهم كل من يحاول التقليل من المحرقة وأفران الغاز معادياً للسامية؟
شتّان ما بين ما تعلنه إسرائيل من ديموقراطية توهم العالم بها وبين العنصرية التي تمارسها على الأرض، وما تشرّع من قوانين خاصة تمارسها على الشعب الفلسطيني بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية الذراع الفولاذية لإسرائيل والحليفة والمدافعة الأولى عن جرائم الصهيونية، والسكوت عنها مستخدمة حق النقض (الفيتو) أكثر من ثلاثين مرة ونيّف لإيقاف القرارات الدولية التي تدين إسرائيل، وتغمض العين عن تقارير المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمنظمات الدولية التي تدين أعمالها وتصرفاتها اللاإنسانية ضد الشعب الفلسطيني.
إذا أرادت إسرائيل العيش بسلام مع الفلسطينيين والدول المجاورة كما تدّعي فعليها أن تتخلّى عن غطرستها وسياستها العنصرية، وتدعو لقيام دولة مدنية ديموقراطية علمانية حديثة، تسودها القوانين والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، ولها في تجربة دولة جنوب أفريقيا خير مثال يحتذى، وتنسى مشروع حلّ الدولتين بمباركة الأمم المتحدة، فتريح شعبها، وتريح العالم من عنصرية مقيتة، وتريح شعوب المنطقة من حالة العنف وعدم الاستقرار، والانتقال للعيش بسلام وأمان.
وفي الختام، إلى متى تبقى الأمم المتحدة تنظر إلى القضايا الدولية بعين واحدة، فتغض الطرف عن كثير مما يجري في فلسطين وبعض الدول بخاصة في الشرق الأوسط؟ ومتى يمكن أن تصل الشرعية الدولية إلى حقيقة العدالة بإلغاء الشرطين الأكثر مخالفة لمبادئ الديموقراطية، العضوية الدائمة للدول الكبرى، وحق الاعتراض/الفيتو من ميثاق الأمم المتحدة لتتساوى الدول جميعها في الحقوق والواجبات، وتعزيز الديموقراطية، وحقوق الإنسان.
ولتثبت الأمم المتحدة من جديد مصداقيتها في سعيها الدائم لتحقيق أهدافها ومقاصدها التي أقرتها واتفقت عليها شعوبها في ديباجة ميثاقها:
“نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي”.