fbpx

الحال تفصح…

0 18

وقفتْ تهتف.. تلوّح بالعلم. شابة ممشوقة القوام تثير حماسة الجموع. استرعت انتباهنا – نحن الصحفيين – حاولتُ أن أجري لقاءً، فاعتذرت.. مؤجل…إلى متى؟
– حتى تحقيق مطالبنا…
– وكم يطول…؟
– أسبوعاً.. شهوراً.. سنة.. الزمن ليس مهماً…

تغيّرت قواعد اللعبة الدولية، فنزف الدم، وهُدّمت أحياء، وهُجّر الناس، وفُقدت الأغذية، وارتفعت الأسعار…صارت المدن خيام نزوح ولجوء. استمرت الأصوات تطالب بالحقوق… ولم تخمدها البراميل المتفجرة…

أشرق فجر يوم جديد، وسطعت شمسه. التقيتها مصادفة، فقلت: والآن…؟
– نعم…، وهلمّ معي…

في الطريق سألتها: ما سرّ حماستك؟ هلّا حدثتني؟
تنهّدت.. يجتاحني رعب، وأشعر بلسع كهرباء كلّما تذكّرت تلك الساعة حين نادت أمّي متوجّعة: “فوّاز أسرع.. سألد.. اتصل بالدّاية..” يعلو صوتها.. بيد مرتجفة يضغط على الأرقام.. “ألو خالتي أم…” طرقٌ على الباب.. “إيمان افتحي..” ركضتُ… خمسة أو ستة رجال اقتحموا البيت، ثيابهم هائجة.. أمسكوا بأبي.. تدلّت سماعة الهاتف تتأرجح.. تردّدت صرخة أمّي في البيت وتجاوب صداها في الحارة.. صدمني أحدهم وهم يخرجون، فوقعت.. شاهدتهم يحشرونه داخل سيارة خضراء…

جلست أمّي على كرسي وهي تئنّ ألماً.. أسرعت جاراتنا وساعدنها.. مدّدنها على السرير، وبين الأنين والبكاء انطلق صوت المولودة.. هلّلت أم سعد، وتعالت الألسنة تحمد الله على السلامة، وأنا المشدوهة بلهاءٌ – أتابع حركة النساء في أرجاء البيت – لا أدري ماذا أفعل…

عاد مؤنس من المخبز.. تفاجأ بما يراه.. وضع الأرغفة على الطاولة.. أدار النظر في النسوة متسائلاً.. “ولدت أمّك أختاً لك..” اتّجه إليها.. كان وجهها كورقة خريف جفّ نسغها.. مسح على رأسها وقبّل جبينها، وسألها: “أين أبي؟” أجابت والدموع تترقرق في محجريها: “الله يستر، لم يستدعوه… هذه المرة أخذوه مخفوراً.. أنت رجل البيت.. تصرّف كما ينبغي…”

قدم جدّايَ وعمّي.. اسودّت الدنيا.. اكفهرّ وجه أمّي وهي تشير لعمّي أنْ اخرج.. وعلا صوتها: “كتّاب تقارير.. وشيتَ بأخيك، ولك عين لتسأل…، كم حذّرته منك وهو يقول: هذا أخي…، لا أريد رؤيتك مادمتُ على قيد الحياة، اذهب من هنا..” تمتم بكلمات غير مفهومة وغادر.

– كم كان عمرك؟
– كنت في الروضة، وأخي في الثاني الابتدائي.
– وبعد…؟

صُرفت والدتي من الخدمة.. لم يعد لنا مصدر عيش، تحمّل خالي بعض المصاريف، كان يرسلها شهرياً. صبرت أمّي على شظف العيش، والمرض، وتابعت تعليمنا دون ملل، أعطت دروساً لأبناء الجيران لتسدّ حاجتنا، وانتظرت تعدّ السنوات دون أن تعرف لزوجها مصيراً.

كبر الأولاد، تخرّج مؤنس في الجامعة، وسافر. يعمل مهندساً في شركة إنشاءات، وأنا أُحضِّر الماجستير في تاريخ بلدنا الحديث.. أمّا صغيرتنا (أمل) ففي السنة الثالثة كلية الصيدلة.

كان يجلس صامتاً.. ساهياً عمّا حوله.. عرجون توالت عليه السنون.. رجل متهدّم.. جلد مشوّه يستر عظاماً ناتئة لجسم نحيل.. يكسو رأسه شعر أبيض.. خدّان بارزتان، ووجنتان متغضنتان.. يدان ترتجفان، وعينان غائرتان تبحثان عن لا شيء. تسرد زوجه القصة: “إنّه واحد من آلاف أُدخِلوا إلى مغارة علي بابا.. بعضهم ابتلعتهم.. محت الريح أخبارهم، وآخرون خرجوا هياكل بشرية. اقتادوه عنوة.. سألت عنه.. ساوموني كثيراً وكذبوا.. غُيِّب في ظلمة الزنازين ورطوبتها سنوات… إنسان كُتِب له أن يرى النور بعد أكثر من عقدين… وجدناه رجلاً ضائعاً لا يعي ما يدور حوله، ولا يعرف أحداً، لقد فقد ذاته وإنسانيته.” ولمعت في عينيها دمعة… “إنّه – كما ترون – صورة شبح تخبر كيف عاش في فنادقهم الفخمة، وتتحدّث عن مكرمات… كانوا يتغنّون بها…”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني