الجنون والخرف الأيديولوجيان
تناول كل من الطب النفسي والطب العام ظاهرة الجنون، وتواضعوا على أن الجنون حالة مرضية لا يستطيع العقل معها أن يفكر منطقياً وواقعياً بكل ما ينتج عن هذا العجز عن التفكير من أنماط سلوك خارقة لقواعد المجتمع خرقاً يصل حد ارتكاب الحماقات التي تلحق الضرر بالآخرين.
وهناك درجات للجنون، وإحدى هذه الدرجات تحكم الأوهام بصاحبها، وتصديق اللامعقول، فتوهم شخص ما بأن هناك قريناً له يرافقه أينما ذهب درجة من درجات الجنون.
غير إن أحداً لم يتحدث عن ظاهرة الجنون الأيديولوجي وخطرها على المجتمع والعلاقات المعشرية بين الناس.
والأيديولوجيا كما هي في تعريفاتها المتنوعة: جملة من الأفكار التي يعتقد بها الشخص اعتقاداً مطلقاً دون أن تنطوي على علاقة بالحقيقة فعلاً، بل إنها حالة تجعل صاحبها محصوراً بما يؤمن به إيماناً مطلقاً.
وانتقال الأيديولوجيا من شكل من أشكال الوعي البسيط المرتبط بالمصلحة أو التصديق العادي إلى حالة من الجنون الأيديولوجي لا يعني سوى تحكم الأيديولوجيا بوصفها هوساً بصاحبها، واستخدام العنف اللفظي أو الجسدي ضد كل من ينال من أوهامه التي وصلت حد الحقيقة المقدسة.
يتعين الجنون الأيديولوجي بقداسة أمرين: قداسة أشخاص والنظر إلى ما يصدر عنها كلام لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه والفكرة المطلقة التي تؤسس لكل الحقيقة.
وحين يتحد الشخص المقدس والفكرة المقدسة في شخص ما فاعلم بأنه في حال الجنون الأيديولوجي.
ولا شك بأن من علائم الجنون الأيديولوجي التعصب الأعمى النافي للمختلف.
فكيف إذا تحول المجانين الأيديولوجيون إلى فاعلين في المجتمع والسياسة والدولة، فإنهم يعيثون خراباً في الحياة، ويصادرون على المستقبل، ومن هذه الزاوية لا فرق بين نتنياهو وآية الله الخميني والبغدادي وكيم إيل سونغ وماوتسي تونغ وأتباعهم.
وتجب الإشارة إلى أن التعصب الطائفي هو شكل من أشكال الجنون الأيديولوجي القاتل، وبخاصة إذا تحول إلى جنون جمعي، وآثاره المدمرة على الحياة واضحة في بلادنا. والحق إن جميع الجرائم ضد المجتمع من فئات تنتمي إلى المجتمع نفسه، أو لا إنما مردها إلى الجنون الأيديولوجي.
وها نحن نعيش اليوم مرحلة من الجنون الأيديولوجي الذي لم يسلم منه حتى بعض من أولئك الذي ظن بأنهم ينتمون إلى حقل الحرية.
فذهنية العنف الناتجة عن الجنون الأيديولوجي والتي تُمارس اليوم بين الناس لمجرد الاختلاف لا تترك مجالاً للشك بأن البرء من الجنون الأيديولوجي الذي كنا نظن بأن الربيع العربي دواء شافٍ منه لم يأخذ بعد صورة الانتصار الكلي.
ومن مظاهر الجنون الأيديولوجي المرعبة، خروج المكبوت الطائفي لدى الأفراد الذين ينتمون إلى حقل الحداثة في الظاهر، بكل عنفه، والشفاء من الجنون الأيديولوجي ليس معناه الانتقال من جنون أيديولوجي إلى جنون أيديولوجي آخر، كانتقال الإسلاموي إلى الشيوعي أو انتقال الشيوعي إلى إسلاموي، بل بالشفاء من التعصب الأيديولوجي والعودة إلى العقل الذي يعترف بالاختلاف ونسبية الحقيقة وموضوعيتها والحق في ارتكاب الخطأ وتاريخية المعرفة والقطيعة المعرفية وممارسة النقد، أي عودة العقل إلى ذاته الثرية.
وهناك فرق بين الجنون الأيديولوجي والخرف الأيديولوجي.
ما الخرف الأيديولوجي؟.
تحدثت أعلاه في عن الجنون الأيديولوجي، والجنون الأيديولوجي هو استعار الأيديولوجيا لدى مقنعتها بحيث تصيبهم بالعماء وتمنح إرادتهم قوة لا عقلية تدميرية. أما الخرف الأيديولوجي فهو الأيديولوجيا في حالة شيخوختها.
فما الخرف الأيديولوجي الراهن؟ لغوياً الخرف من الفعل الثلاثي خرف: فسد عقله من الكبر أو انقطعت صلته بالواقع. وانقطاع الصلة بالواقع يخلق أشكالاً متعددة من السلوك المرضي، أو اللاسوي في أحسن الأحوال. إن تعريف الخرف بوصفه انقطاع الصلة بالواقع، يؤكد ما نذهب إليه من تعريف الخرف الأيديولوجي.
فالخرف الأيديولوجي لا يصيب الأيديولوجي الذي يبلغ من العمر عتياً وظل متمسكاً بأيديولوجيا فقدت صلتها بالواقع فقط، وليس وقفاً على الجماعات المعنّدة في أوهامها الأيديولوجية، وإنما يصيب الجميع من كل الأعمار والأزمان. والحق أن العالم العربي الآن يعاني من وجود عدة أشكال من الخرف الأيديولوجي ومن النتائج الكارثية لخرف كهذا، لأن الأيديولوجيا مرتبطة بالسلوك.
ولا نستطيع أن نقف عند كل أشكال الخرف الأيديولوجي في مقالة صغيرة، ولهذا سنقف عند بعض الأشكال. فلو تأملنا الأيديولوجية الميليشياوية الأصولية الآن واستطالاتها، فلا شك أننا واجدون نموذجاً فذاً للخرف الأيديولوجي المترافق مع جنون أيديولوجي.
فعندما يصرح زعيم ميليشيا شيعية عراقية بأن المعركة مازالت حتى الآن بين أنصار حسين بن علي وأنصار يزيد بن معاوية بكل ما ينطوي عليه هذا القول من خرف أيديولوجي فإنه، أي هذا الخرف يفضي إلى جنون ثأري في القرن الحادي والعشرين من حدث تاريخي مرتبط بالصراع على السلطة، وعلى السلطة فقط، ينتمي إلى القرن السابع الميلادي.
فالحكم على الحاضر بترسيمات وأشباه مفاهيم وقوانين وأعراف عالم قديم، أمر مستحيل منطقياً وواقعياً ومعرفياً، بل هو أخطر أعراض الخرف الأيديولوجي.
ولأنه ليس بمقدور الواقع أن يستمرئ أمراً كهذا، ولّد هذا الخرف الأيديولوجي حركات عنفيةً تسعى لتكسير رأس التاريخ، مستغلة الخرف الأيديولوجي للدكتاتوريات التي حكمت انطلاقاً من عقلية الاحتلال واحتكار القوة، بل إن الحركات المسلحة التي أخذت أسماء كحزب الله وأنصار الله وجند الله ونصرة الله، والتي تحمل السلاح وتنظم نفسها تنظيماً فاشياً، ما هي إلا صور فاقعة من صور وحدة الخرف الأيديولوجي مع الجنون الأيديولوجي.
والخرف الأيديولوجي الشيوعي المستمر بصورته القديمة، رغم انهيار التجربة السوفييتية أو أشباهها في أوروبا الشرقية، والمستمر عند بعض الأفراد والأحزاب القديمة، لا يقل عن الخرف الأيديولوجي الأصولي الديني.
فما زال البكداشيون السوربون وما شابههم من الشيوعيين العرب بسبب خرفهم الأيديولوجي يتعاملون مع روسيا الرأسمالية على أنها الاتحاد السوفييتي، ويرون في بوتين الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي.
ولكن من حسن حظ الواقع أن النتائج السلبية لخرف كهذا، لا تتعدى الكتابة والمواقف السياسية السلمية، وآية ذلك أن الشيوعية مهما أخذت طابع الدين الدنيوي، تظل في الوعي ابنة الأرض وخالية من المقدّس، ولهذا خضعت للنقد من أصحابها أنفسهم.
أما أشكال الخرف الأيديولوجي المستترة فحدثْ ولا حرج، وهي مستترة لأنها لا تظهر إلا في الممارسة وليس في الخطاب، وهي لا تقل خطورةً عن أي أيديولوجيا معلنة إن لم تكن أخطر من المعلن. فالاعتقاد بأن أمريكا تفكر بمصالح الآخرين لتحققها، فهذا خرف ناتج عن الأوهام القومية.
والاعتقاد بأن العالم ثابت وخارج السيرورة والتغيير، هو خرف يصيب بعض الجماعات الحاكمة الفاقدة لحس الشم التاريخي، فتقودها هذه الحال إلى العمى التاريخي.
وتأسيساً على ما سبق ذكره، فإن ماهية الخرف الأيديولوجي تظهر أكثر ما تظهر في المراحل الانتقالية للتاريخ، حيث الشيخوخة الأيديولوجية تقوم بالهذيان وتتحول إلى ذاكرة ليس فيها إلا القديم.