الثورة وسلطان الإرادة
قالت العرب: صاحب الحقّ سُلطان.
يُعرَّف مبدأ سلطان الإرادة بأنه: انصراف إرادة الشخص إلى إنشاء التصرف القانوني، وقدرته على تحديد الآثار التي تترتب عليه حتى ينتج التصرف القانوني أثاره القانونيّة، وبمعنى آخر هو اتجاه الإرادة إلى إحداث أثر قانوني يرتبه القانون إعمالاً لتلك الإرادة.
ومبدأ سلطان الإرادة ذو شقين:
الشق الأول يتعلّق بالشكل: وهو مبدأ الرضائية الذي يجعل الإرادة وحدها مجردة عن أي شكلية كافية لإنشاء التصرف، فكل ما هو مطلوب أن يصدر تعبير عن الإرادة، وهذا التعبير يكون بأي صورة، فقد يقع باللفظ أو بالكتابة أو حتى بالإشارة، ويجوز أن يكون ضمنياً.
أما الشق الثاني فيتعلق بالموضوع: ومقتضاه أن تكون الإرادة كذلك صاحبة السلطان في تحديد آثار التصرف. فتسطيع الإرادة أن تنشئ عقداً لا يعرفه القانون، وأن تتجه إلى ما يخالف أحكام العقود التي نظمها القانون، وأن تجعل من العقد الرضائي عقداً شكلياً أو عينياً، ومنه استنبطت قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون.
فموضوع مبدأ سلطان الإرادة هو حرية إرادة المتصرف في أصل التصرف القانوني ونتائجه وحدود تلك الحرية في نظر القانون. ويتعلق بهذا المبدأ أربع حريات في أربع نواح هي:
حريّة التعاقد: ويعني حرية المتصرف في أصل التصرف القانوني.
الرضائيّة: وتعني حرية المتصرف في كيفية التعبير عن إرادة التصرف القانوني ويقتضي كفاية الرضا لإنشاء التصرف القانوني، أياً كانت طريقة التعبير عن هذا الرضا، أي من دون تقييد المتصرف بقيود شكلية ومراسم مخصوصة بحيث لا ينشأ التصرف القانوني إن لم تتحقق.
حرية المتصرف في إنشاء ما يشاء من أنواع التصرفات القانونية في حدود حقوقه الذاتية من دون التقيد بأنواع التصرفات المسماة التي أقرها القانون ونظمها.
العقد شريعة المتعاقدين: ويعني حرية المتصرف في تحديد آثار التصرف القانوني من طائفة التصرفات المسماة وتعديل نتائجه الأصلية باشتراط ما يريد من شروط بحسب إرادته ولا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين أو كما ينص القانون.
وعليه فإن المفاوضات بين المعارضة والنظام، القائمة على التزامات مفروضة مُسبقاً من قبل الأمم المتحدة، مُحدّدة المقدّمات ومحدّدة الآليّات ومحدّدة الأهداف ومحدّدة النتائج. من خلال مقاربة الأمم المتحدة للنزاع في سورية على أنه حرب أهلية يقتضي حلّه الزام الأطراف بالجلوس على طاولة المفاوضات على قاعدة التوزان والمساواة في المركز القانوني للأطراف المتفاوضة لضمان الوصول إلى شراكة في السلطة إما على قاعدة المحاصصة أو تقاسم السلطة أو الشراكة المتساوية، وبعد الوصول إلى الهدف يتم الإعلان عن صكوك الصلح، وإيداعها الأمم المتحدة باعتبارها المرجعيّة القانونيّة الدوليّة الراعيّة للحل لتقوم بدورها بالعمل على تنفيذها إما سلماً عن طريق الانتخابات أو التعيين، وإما جبراً من خلال اللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدّة.
إن المُتتبِّع لمسار الحل السياسي الأممي في سورية لا يجد صعوبة في تحديد مرتكزاته وآلياته وأهدافه ونتائجه إذ أن التفاوض قائم على قاعدة لا حل عسكري للنزاع في سورية، وأنه بعد قرصنته من قبل النظام الروسيّ تجاوز النقاط الستّ في خطة عنان وبيان جنيف وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 لعام 2013 ليتم تكريس استبعاد فكرة تشكيل هيئة حكم انتقالي لصالح هيئة حكم ذات مصداقيّة التي يدور حولها القرار رقم 2254 لعام 2015، واستبدال العدالة الانتقالية بالعدالة التصالحيّة، وما مسار اللجنة الدستوريّة ومخرجات سوتشي واستانا إلا تفريغاً لمطلب وقف اطلاق النار الشامل والتفريط بملف المعتقلين وتحويله إلى صفقات تبادل مختطفين/ محجوزين.
إن التصريحات الدوليّة سواءً كانت عبر بيانات الأمم المتحدة أو على لسان المسؤولين الأمميين، أو المعارضة السورية كلها تأتي في هذا السياق، وكان آخرها تصريح معالي وزير الخارجية التركية والتي كانت من الوضوح بمكان بأن أحدثت زلزالاً في صفوف الثورة، ليس لأنها جديدة أو تحمل شيئاً جديدا وإنما لأنها تعبِّر عن حقيقية الحل السياسي الاممي في سوريّة الذي يتنافى مع قيم الثورة وثوابتها.
وبما أن سلطان الإرادة يقتضي توفّر الحريّة والرضائية لدى المتعاقدين أو ما يعرف بـ أهلية الوجوب وأهلية الأداء، فيما إذا كانت التصرّف شخصيّاً، وأما إن كان وكالةً أو نيابةً عن الغير فلا بد إضافة لتوّفر الاهليّة من توّفر الشرعيّة أي توفر التفويض من الغير.
المظاهرات التي شهدتها ساحات الثورة في المناطق المحرّرة والتي حملت عنوان لا تصالح هي التعبير الحقيقي لسلطان الإرادة من أولياء الدّم، والحقوق، ومن أهل الثورة برفض أي حلول إذعان تحت أي مسمىً كان سواءً حلول أممية أو اتفاقيّات دوليّة أو تحت بند قرارات دوليّة، أو اتفاقيّات سلام بين الأطراف في المفاوضات القائمة في جنيف بين المعارضة والنظام، وأظهرت عدم شرعيّة المعارضة، وبالتالي عدم شرعيّة أو مشروعية أي اتفاقيّات تُبرمها باسم الثورة.
ورغم الحصار، ورغم التهديد الروسي الإيراني ورغم التخاذل الأممي خرج أولياء الدّم ليحسموا الأمر بأنه لا صلح مع القتلة والمجرمين وأن قضيتنا معهم ليست قضيّة صراع على السلطة وإنما هي قضيّة حقوق ودماء وأعراض وأموال مستباحة من قبل طغمة من المجرمين، وأن لا حل يحقق الاستقرار في سوريّة إلا زوال هذه الطغمة المتوحّشة من حياة السوريين، وأن استقرار المنطقة واستقرار الأمن والسلم الدوليين مرهونة بزوالها، وعلى العالم أن يعيد إنتاج موقفه من الشعب السوري، ومن النظام المجرم وأن يتوقّف عن محاولات إنتاجه وتأهيله.