
الزمان: ١٩٨٠م
الساعة الثانية والنصف ظهراً وقتي المفضل.
سيُفتح باب المنزل ويدخل عمر يحمل بعض الأكياس أركض نحوه لأخذها منه،
يضع يده على رأسي، أشعر بدفئها وحنانه.
– يده ثقيلة، وبرفق يبعدني عن طريقه.
– الله يرزقك يا أبني الله يحميك.
صوت امي تأخذ منه الأكياس.
اليوم تأخر عمر الساعة الرابعة ولم يأتٍ. أمي مرتبكة، خائفة، تروح وتجيء بين المطبخ والشبّاك، عمر لم يحضر.
جرس الباب يرنّ،
عمر لا يدقّ الجرس، عنده مفتاح إنه عمّي شاحب الوجه دخل إلى الغرفة.
وظلّ عمي يتحدث مع أمي بعض الوقت،
عبثاً حاولت أن أسمع أو أفهم.
لم نتناول طعام الغداء، ظلّت أمي تبكي
في المساء وضعت بعض الطعام ولم تأكل، قالت لنا:
-كلوا وناموا كي لا تتأخروا على المدرسة.
مضى شهر أو أكثر.
عاد عمر، لم أعرفه،
كان هزيل الجسد، شاحب الوجه، بالكاد يستطيع أن يمشي.
ظلّ عمر أسبوعاً لا يتحدث معنا ولا يذهب للعمل.
مضت سنوات، كبرتُ ونسيتُ معها تفاصيل ذاك اليوم المشؤوم، لم يبق منها غير وقتي المفضل، الثانية والنصف.
عاد عمر
– اليوم الغداء شي تحبه كثيراً، قلت له.
– ردّ علي يقول: أنت تشبهين أمي كثيراً، الله يرحمها..
في المساء سنذهب مشواراً
– يا الله كم كنت أتمنى هذا ولكن أخجل عندما أراك تأتي متعباً، دائماً تقرأ أفكاري، كم أنت رائع.
مشينا سوية، همس:
– سنشتري شيئاً تحبينه ونجلس في الحديقة، وضع ذراعه على كتفي، كانت دافئة كما أعرفها
– كنتِ صغيرةً، لا تتذكري ذلك اليوم.
سكت قليلاً
– استدعاني صاحب العمل كان عنده شخصٌ غريبٌ،
قال الشخص الغريب: عمر سترافقني إلى الفرع، سنسألك بعض الأسئلة فقط.
بقيت ساعاتٍ واقفاً، أدخلوني إلى غرفة التحقيق، كان هناك ضابطٌ ضخمٌ، نظراته مخيفة على مكتبه اوراق.
خاطبني الضابط: هل أنت عمر؟.
قبل أن ألفظ أي كلمة
كان بقربي، أمسك بذقني، وبسخريةٍ قال: ما تزال صبياً.
نظر في الأوراق على مكتبه
– سنة ثانية كلية الشريعة؟.. إخوان مسلمون؟
ماذا تريدون؟ دولة إسلامية؟ أنا لا أعرف من هو ربك، دعه يأتي ويساعدك.
صوت ضحكته الساخرة ملأ المكتب.
– تعال يا ابني خذه ليرتاح كم ساعة ويفكر
شدّ السجّان رباطاً اسود على عينيّ، واقتادني، نزلت درجات كثيرة، سمعت صوت باب يفتح، ركلني بقوة وأغلق الباب.
أحدهم نزع الرباط.
كلّ العيون تحدق بي، لم يتجرّأ أحدٌ أن يتحدث معي، كنت أصغرهم.
عيناي تجوبان المكان، ضوء أصفر معلق في السقف، أسندت ظهري إلى الحائط، بعض البطانيات الوسخة والممزقة على الأرض، رائحة السجن لا توصف، أظن أنهم من شهر لم يستحموا
أجساد متعبة تشعر أنها دون أرواح، منهكة من هول ما تلاقي،
كنت أسمع ما يحصل في السجون لم أتخيّل يوماً إني سأكون معهم.
أقدام متورمة وآثار الضرب على أجسادهم، حتى على وجوهم.
صوت أنين بالكاد يسمع،
بعض الثياب تستر بعضاً من أجسادهم،
في الزاوية دورة مياه، كانت قذرةً
– كم الساعة؟
سكت الجميع، كأني أسأل عن شي يجهلونه!
صوتٌ متعبٌ من آخر الغرفة: الوقت هنا يا بني توقف، لا نعرفه.
– أريد أن أتؤضأ وأصلّي.
ضحك الجميع
نمت في مكان بالكاد يتسع لنصف جسدي كانت الأرض شديدة البرودة والبطانيات لا تكفي الجميع.
أدركت فيما بعد، هنا لا يمكن للمعتقل أن يعرف الليل من النهار.
لا فرق. الضوء الاصفر دائماً يضيء غرفة التوقيف، نحن تحت الأرض، لا يصلنا ضوء الشمس
كان الحرس يفتح الباب، وينادي على واحد أو أكثر. يغيب فترة ونسمع صوت صراخ وجلد وأصوات أجهلها.
ثم يفتح الباب، يرمى من أخذوه عاجزاً عن الحركة وآثار التعذيب على جسده.
علبة من البلاستيك في أسفلها قليل من الماء نشربه، ونضطر لاستخدامها إن فرغت للتبول ونشرب منها مرة أخرى.
بغض الخبز يُرمى به من شباك صغير ضمن باب الزنزانة، بعضنا يأكل والبقية لا.
في كل مرة أساق فيها إلى خارج الزنزانة، وأضرب.
وضعت يدي على فمه وقلت له:
استحلفك بالله لا تكمل، توقّف،
أبعدَ يدي، وقبّل رأسي
لم يشغل فكري لو لحظة دراستي، أو التعذيب، أو أشياء بشعة، لن أحدثك عنها.
كان همّي أمي المريضة، وقلبها لن يتحمل، وماريا وعثمان وأنتٍ.
تقاعد والدي وراتبي وآجار المنزل
بالكاد تكفي لآخر الشهر.
يقول لي: كنتم أغلالاً ثقيلةً في عنقي.
اختبار صعب.
أفكاري مستقبلي أحلامي؟
وأنتم؟
لا أدري كم بقيت معهم، توفي الرجل الذي سمعت صوت أنينه يوم دخلتُ، ظل يعاني من آلام جسده، كان ينزف من التعذيب، وهو على الأرض الباردة دون علاج
بعضهم خرج ولم يعد، مصيره مجهول.
باب الزنزانة كابوس لنا، عندما يُفتح من سيذهب نتساءل في سرّنا؟
عندما اقتادني الحارس إلى غرفة الضابط وأنا أصعد الدرجات، وجه امي وأنت ٍكل ما أفكر به.
لا يمكن أن أنسى ذاك الوجه القبيح وتلك النظرات
– ها أمضيت وقتاً ممتعاً في ضيافتنا؟
فكرتُ
مع إنك لا تزال صبياً، ولكن تبدو عاقلاً ولن تتعبني معك.
كان عليّ أن أوقّع على أوراق لن اتمكن من قرأتها.
اعترافات كثيرة، وانسحابي من التنظيم ليتم إخلاء سبيلي.
– عمر لا تخاف، ستأتي كل فترة تزورني وتشرب فنجان قهوة.
ضحك بسخرية وصوت عالٍ ولطمني على وجهي
– كي لا تنسى
أمي توفيت وعجزت عن تأمين تكاليف العملية،
ماريا تزوجت، عثمان تخرج من الكلية
وقريبا أخلص من همّك
-أنا هم!.. سامحك الله
– بل وهمٌّ كبيرٌ
ما عدت أعرف عمر، تغيّر كثيراً يعود متأخراً
لم يعد يتناول الغداء أو يتحدث معنا.
اليوم انتظرت حتى الثانية والنصف ليلاً ولكن عمر لم يعد.