fbpx

التّطبيل الاجتماعيّ وخَطَرُه على بِناء الدَّولة

0 68

توصيف التطبيل:

قال الحسن البصري: “تولّى الحجاج العراق وهو عاقل كَيّس، فما زال النّاس يمدحونه حتى صار أحمق طائشاً سفيهاً”.

التطبيل الاجتماعي هو مصطلح يشير إلى الغلوّ في المدح للأفراد أو المؤسسات، دون النظر إلى الحقائق الموضوعية، حيث يتم استخدامه لتلميع صورة مسؤول ما، أو تسويغ قرارات معينة.

وهناك أسباب تدعو إلى التطبيل، منها التقرّب من مسؤول وكسب ودّه، أو الطمع بمنصب أو مال غنيّ، أو اتّقاء شرّ ذي نفوذ، فالتطبيل نفاق من أجل تحقيق مصلحة، أو درء مفسدة، فالمطبِّلون يعملون على توظيف نفاقهم للحصول على مكاسب شخصية، فنجدهم دائماً يردّدون عبارات كاذبة ومنمّقة تولِّد لدى المسؤول القناعة التامة بصوابية قراراته وسياسته وتوجّهاته، فيذهب نحو ترسيخها ومواصلتها ويستبسل في الدفاع عنها، وإرفاقها بمسوِّغات المطبِّلين من حوله المدافعين عنها.

ويمكن أن يكون التطبيل لضغوط اجتماعية أو سياسية تدفع الأفراد إلى التطبيل ولو كانوا غير مقتنعين، كما كان في عهد نظام الأسد الساقط.

ونلاحظ أن غالب المطبِّلين هم من المثقفين بكافة فئاتهم، وكذلك أدعياء العلم الشرعي، فإذا جاز -فرضاً- أن يتملّق صغار القوم وأدناهم لصاحب السلطة، فيمسحون ما شاؤوا من الأجواخ، فإنه من غير المتصوّر أن يفعل ذلك المثقفون وأصحاب الرأي وأدعياء العلم الشرعي، من أجل الوصول إلى صاحب السلطة والتقرب منه.

وشعار المطبّلين “التطبيل لمن يدفع أكثر”، لا قناعات سياسية ولا مبادئ أخلاقية، إنه الهوان واللّهث وراء المال والجاه، وقد خبِرتُ بعض المطبّلين والمطبِّلات يتنقّلون من حضن إلى حضن، فمن يدفع لهم أكثر، أو يعدهم بمنصب أكبر، يحظ بقربهم، فتراهم يطبّلون لجهة ما لمنفعة، ويهجون خصومهم، فإذا صارت مصلحتهم مع خصومهم تراهم يهجون من كانوا يطبّلون لهم، ويطبّلون لخصومهم!!

والتطبيل ليس ظاهرة ابتدعها أهل زماننا، بل هو قديم جدّاً تعود بداياته إلى العصر الجاهلي، لكنه تطوّر تاريخيّاً من حيث النوع والكم وأساليب المطبّلين، ففي حين كان أئمة النفاق والتطبيل من الأدباء والشعراء، أصبح اليوم من جميع فئات الشعب بما أتاحته لهم وسائل التواصل الاجتماعي من منابر نفاق وتطبيل لم تكن متاحة من قبل.

أمثلة على التطبيل:

وللتطبيل في تاريخنا أمثلة كثيرة، منها:

– رمى الخليفة العباسي المتوكل عصفوراً فلم يصبه، فقال وزيره: أحسنت! فردّ الخليفة: أتهزأ بي؟! فقال الوزير: لقد أحسنت إلى العصفور حينما تركت له فرصة للحياة.

– وفي أواخر عصر كافور الإخشيدي وقع زلزال في مصر جعل الناس تهرب إلى الجبال خوفاً، فتشاءم كافور واعتزل الناس، وخشي أن يكون الزلزال غضباً من الله عليه، حتى أخرجه من عزلته الشاعر محمد ابن عاصم بقصيدة دفع لها الإخشيدي ألف دينار ذهباً. وجاء في مطلعها:

ما زُلزِلتْ مصرُ من كَيدٍ يرادُ بها… لكنّها رقصت مـن عَدْلِكُم طَرَباً

– ويُحكى أن شاعراً دخل على أحد الملوك بالليل، وكان الملك ذا هيبة، فبدل أن يقول له مساء الخير، قال له: صباح الخير، فغضب الملك وقال: أصَبَاحٌ هوَ أم مساء؟! أتسخر منّي!!

فأطرق الشاعر رأسه ثم رفعه وأنشد يقول:

‏صَبّحتهُ عِندَ المَسَاءِ فقَالَ لي… تَزري بِقَدري أو تُريدُ مُزَاحَا؟!

فَأجبتهُ: إِشرَاقُ وَجهِكَ غَرّني… حَتّى تَوهّمتُ المَسَاءَ صَباحَا

– ومطبِّل آخر يعلّل للحاكم سبب عدم نزول المطر في مصر، وقد ظنّ أنه ربما يكون السبب في ذلك غضباً من الله تعالى:

ما قَصَّرَ الغيثُ عن مصرٍ وتربتِها… طبعاً، ولكنْ تَعدّاكم من الخجَلِ

أي: إنّ المطر لم ينزل في مصر، لأنكم فيها، فأنتم أكثر نفعاً من المطر، بل أنتم الغيث، تحيا بكم كل أرض تنزلون بها، فلا تحتاج إلى غيثٍ سواكم.

خطورة التطبيل:

إن المطبلين أشدُّ خطراً على الوطن من المسؤول الفاسد؛ لأنهم فئة رخيصة قابلة للاستغلال، ولديها استعداد لبيع كل شيء – حتى الوطن – في سبيل الوصول إلى تحقيق شهواتهم، وكذلك ضرر المسؤول الفاسد محدود، وأما المطبِّل فضرره يصيب المجتمع بأكمله، لأنه يخفي الحقيقة عن المجتمع، ويخدعهم بأوهام وأكاذيب يخدّرهم بها، كما يخدّر بها المسؤولَ المطبَّلَ له، إذ يعتاد على ”التطبيل”، و”التزمير.

إنّ مدح المسؤول والثناء عليه وتلميع صورته والحديث عن إنجازاته (العملاقة)، وتقديمه على أنه (سفينة نوح) من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى، وتصويره على أنه المنقذ، ولولاه لما أكلنا وشربنا ولبسنا وتعلمنا وتحرّرنا وتنفّسنا، هذه السياسة المشبعة بالنفاق والتزييف الجمعي لوعي المجتمع هي التي تقف خلف صناعة أشباه المسؤولين.

ويعدّ التطبيل الاجتماعي من الظواهر الخطيرة التي تؤثر في المجتمعات والدول، إنه السوس الذي ينخر في جسد الوطن، ويحمل في طياته مخاطر جسيمة تؤثر على مسيرة بناء الدولة، منها:

  1. تشويه الحقائق: يؤدي التطبيل إلى إغفال الحقائق الواقعية، مما يجعل من الصعب على المواطنين تقييم الوضع بشكل موضوعي، هذا التشويه يقود إلى اتخاذ قرارات غير صحيحة على مستوى السياسات العامة.
  2. فقدان النقد البناء: عندما يتم تعزيز ثقافة التطبيل، يقلل ذلك من فرص النقد البناء، مما يضعف آليات المساءلة. فبدون النقد، لا يمكن تحسين الأداء الحكومي ولا تحقيق التنمية المستدامة.
  3. تآكل الثقة: مع مرور الوقت، يشعر المواطنون بخيبة أمل في حال اكتشافهم أن ما تم التطبيل له لم يكن حقيقياً. هذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات، وتراجع المشاركة السياسية.
  4. تعزيز الفساد: التطبيل يساهم في خلق بيئة تسمح بالفساد، حيث يمكن للقيادات الاستفادة من الدعم غير النقدي لتنفيذ سياسات أو قرارات غير شفافة.
  5. تأخير الإصلاحات: في ظل غياب النقد الصادق، قد تتأخر الإصلاحات الضرورية، مما يعيق تقدم المجتمع ويؤثر في جودة الحياة.

القضاء على التطبيل:

وإن مكافحة التطبيل الاجتماعي تتطلب جهوداً متعددة الأبعاد تشمل الأفراد والمجتمعات والحكومات، وإليك بعض الاستراتيجيات الفعالة:

1- تعزيز التعليم والتوعية من خلال:

– تحسين التفكير النقدي: بتعزيز التعليم النقدي الذي يشجع الطلاب على التفكير النقدي والتحليل بدلاً من القبول غير النقدي للمعلومات.

– التوعية الإعلامية: بتعليم الأفراد كيفية تقييم مصادر المعلومات وفهم الدعاية والتلاعب الإعلامي.

2- تشجيع الحوار المفتوح من خلال:

– إنشاء منصات للحوار: بتوفير أماكن وآليات للنقاش حول القضايا الاجتماعية والسياسية، مما يتيح للأفراد التعبير عن آرائهم ومخاوفهم بحرية.

– تشجيع التنوع في الآراء: بدعم النقاشات التي تشمل وجهات نظر متنوعة، مما يساعد في تقليل الاستقطاب وتعزيز الفهم المتبادل.

3- تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال:

– مراقبة الحكومة: بدعم المبادرات التي تعزز من الشفافية في الحكومة وتضمن أن تكون القرارات السياسية خاضعة للمساءلة.

– الإفصاح عن المعلومات: بمطالبة الحكومات بتقديم معلومات دقيقة حول السياسات والقرارات، مما يساعد في تقليل الفجوة بين الواقع والتطبيل.

4- دعم الإعلام المستقل من خلال:

– تشجيع الصحافة المستقلة: بدعم وسائل الإعلام التي تقدم تقارير موضوعية ونقدية، مما يساعد في محاربة المعلومات المضللة والتطبيل.

5- تعزيز المشاركة المجتمعية من خلال:

– تفعيل الديمقراطية المحلية: بتشجيع المشاركة في العمليات السياسية المحلية، وتفعيل دور الأحزاب الوطنية، مما يتيح للشعب المشاركة في اختيار ممثليهم في الدولة.

– المبادرات المجتمعية: بدعم المشاريع التي تعزز من التعاون المجتمعي وتحفّز الأفراد على العمل معاً لمواجهة التحديات.

6-  تطوير ثقافة النقد البناء من خلال:

– تشجيع النقد البناء: بتعزيز فكرة أن النقد ليس هجوماً، بل وسيلة لتحسين الأداء والممارسات.

– تقدير الآراء المختلفة: ببناء ثقافة تحترم الاختلاف وتعتبر النقد جزءاً طبيعياً من عملية التطوير.

حكم التطبيل:

إنّ وليّ الأمر يُدعى له بالتوفيق والهداية، ولا يُمدح بما ليس فيه.

ويعترض بعض المطبّلين على إنكار التطبيل، مدّعين أنه وقع في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، في أشعار حسان بن ثابت الملقب بـ”شاعر النبي”، وسعد بن الزبير، وعبد الله بن رواحة وغيرهم ممن مدح النبي.

ونقول لهؤلاء: هناك فرق بين المديح والتطبيل؛ فالمديح يكون لمن يستحقّه على شيء جميل فعله، من دون غُلُوّ فيه، لكن التطبيل مديح لمن لا يستحقّه، على شيء قبيح فعله، مع الغلوّ فيه، وهذا التطبيل هو الذي ذكره النبي في قوله: “إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب”، فقال: (المدّاحين) لا (المادحين)، وصيغة (فعّالين) تدل على الكثرة في المديح والتكلّف فيه، والغلوّ إلى حدّ الكذب، وهذا ديدن المطبِّلين الذين يبالغون في مديحهم إلى مرحلة الكذب، على حين أن صيغة (فاعلين) تدل على مدح معتدَل صادق، فالمدّاح مذموم والمادح محمود، وأمر أن نحثو التراب في وجوههم؛ إذلالاً لأصحاب هذه الوجوه الذين قبلوا الذِّلَّة والمهانة، واتّخذوا الكذب وسيلة لإرضاء الممدوح وكسب ودّه أو ماله.

نصيحة لأولياء الأمر:

لا يغرّنكم اجتماع المطبّلين من حولكم، فهؤلاء ممن لا يعرفون الولاء، وليسوا أهلاً للانتماء، وإنما هم عبيد منتفعون، لا قيم عندهم ولا مبدأ، يلهثون وراء المال والمنصب، ويسهل اختراقهم وشراؤهم، فلا يعوَّل عليهم في البناء، إنهم أدوات رخيصة وسلعة حقيرة، وما سقطت سلطة إلا لاعتمادها على أمثال هؤلاء من العبيد.

فالدولة إذن أمام خيارين؛ إما أن تشارك الأحرارَ أصحابَ القرار ليكونوا معها في قيادة الدولة وبنائها، وإما أن تُقصي الأحرار، وتغترّ بالعبيد المطبّلين من حولها، الذين سيكونون سبباً لإسقاط الدولة وخرابها وخيانتها، فالعبيد لا يؤتمن جانبهم، إنهم يميلون مع الهوى، وحيث تكون القوى.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني