fbpx

التجديد الدبلوماسي: ركيزة أساسية لبناء سوريا الجديدة بعد عهد الاستبداد

0 25

الدبلوماسية ليست مجرد قنوات اتصال بين الدول، بل هي مرآة تعكس هوية النظام السياسي وقيمه، وترسم ملامح سياسته أمام العالم. وفي سوريا ما بعد نظام الأسد البائد، حيث يتحتم بناء دولة المؤسسات والمواطنة على أنقاض عقود من الاستبداد، يبرز تجديد الكوادر الدبلوماسية في السفارات والقنصليات كخطوةٍ محورية لا تقبل التأجيل أو المساومة. فالدبلوماسية التي ارتبطت بآلة النظام القمعية، وروَّجت لخطابٍ مشوَّهٍ تبرر فيه القتل والتعذيب، لم تعد قادرةً على تمثيل هوية سوريا الجديدة، ولا على كسب ثقة المجتمع الدولي الذي يترقب خطواتٍ جادةً نحو التحول. إن إرساء دبلوماسيةٍ جديدة، تحمل راية الثورة وقيم العدالة، ليس خياراً فحسب، بل هو واجبٌ تاريخي لقطع جذور الماضي، ووضع لبنات مستقبلٍ تُبنى فيه السياسة على مبادئ الشفافية والحوار.

الدبلوماسية الجديدة.. جسرٌ لبناء سوريا الحديثة

في عالمٍ لا تكتمل فيه شرعية الدول إلا من خلال حضورها الدولي، تغدو الدبلوماسية أداة مركزية لا لنقل المواقف فحسب، بل لبناء التصورات وصياغة العلاقات. وفي لحظة التحول التي تمر بها سوريا، يصبح لزاماً أن يُعاد تعريف الدور الذي تضطلع به السفارات والقنصليات، من كونها أذرعاً لنظامٍ سلطويٍّ كانت وظيفتها تبرير الاستبداد والدفاع عنه، إلى منصاتٍ فاعلة تمثل روحاً جديدة تسعى إلى ترميم الثقة المنهارة بين الدولة السورية والعالم. لم يعد مقبولاً أن تكون علاقاتنا الخارجية امتداداً لماضٍ مثقلٍ بالانتهاكات، بل يجب أن تنبع من رؤية جديدة ترى في العدالة والمساءلة والحرية أدواتٍ للتماهي مع قيم المجتمع الدولي، لا موادَّ للمواجهة معه. فالدبلوماسي السوري، بعد الثورة، يرسل ليشرح للعالم ما الذي تغيّر، ولماذا يستحق هذا المشروع السوري الوليد فرصة للحياة. ومن هنا، لا يُطلب من الدبلوماسية أن تواكب التحول السياسي فقط، بل أن تسهم في صناعته، وأن تكون اللسان الذي ينقل نبض الداخل إلى الخارج بلغةٍ يفهمها العالم. هذه المهمة تقتضي وجوهاً جديدة تؤمن بالتغيير وتتمتع بالكفاءة لإقناع المجتمع الدولي بأن سوريا ليست مشروعاً ناشئاً، بل محصلة نضال طويل لشعب انتصر بإرادته على عقود من الاستبداد.

تطهير الدبلوماسية من إرث الماضي.. ضرورة أخلاقية وسياسية 

لا يقتصر استبدال الكوادر الدبلوماسية القديمة على كونه إجراءً إداريّاً روتينيّاً، بل هو مسألة وجودية تتعلق بشرعية الدولة الجديدة ومصداقيتها. فالدبلوماسيون الذين خدموا نظام الأسد لم يكونوا مجرد موظفين ينفذون الأوامر، بل كانوا جزءاً من آلة دعاية مُمنهجة روَّجت للقمع داخليّاً، ونسجت أكاذيبَ دوليةً لتبرير جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. هؤلاء تحوّلوا -بإرادتهم أو تحت الإكراه- إلى أدواتٍ لتمرير سياسات النظام، من تزوير الانتخابات إلى دعم المليشيات الطائفية، مما يجعل بقاءهم في مناصبهم تناقضاً صارخاً مع مبادئ الثورة السورية، واستهانةً بدماء الضحايا وآلام الناجين. 

أما الجانب السياسي، فيكمن في أن المجتمع الدولي، خاصة الدول الداعمة للتحول الديمقراطي في سوريا، لن تثق بدولةٍ تُرسل لها نفس الوجوه التي كانت تهددها بالأمس بلغة التطرف والابتزاز. بل إن بقاء هؤلاء قد يُفسَّر كإشارة على أن النظام الجديد لم يقطع مع الماضي، أو أنه يخضع لمساوماتٍ داخلية تُعيد إنتاج نفس التحالفات القديمة تحت مسميات جديدة. هنا، يصبح تطهير السلك الدبلوماسي رسالةً واضحةً للخارج: “سوريا الجديدة” جادة في تغيير سياستها، ولن تسمح لمن حوَّلوا الدبلوماسية إلى غطاءٍ للفساد أن يمثلوها. 

لكن الاستغناء عن الكوادر القديمة يجب أن يقترن بخطةٍ عادلةٍ لبناء كوادر بديلة، لا تعتمد فقط على انتمائها لـ”قوى الثورة”، بل على كفاءتها وقدرتها على فهم التعقيدات الدولية. فالدبلوماسي الجديد يحتاج إلى تدريبٍ مكثفٍ على: 

– الدبلوماسية الإنسانية: كسب التأييد لمشاريع إغاثة النازحين وإعادة الإعمار عبر خطابٍ يعترف بمعاناة الشعب السوري دون استغلالها سياسيّاً. 

– دبلوماسية التحالفات: بناء شبكة علاقات جديدة مع دولٍ لم تكن جزءاً من محور النظام السابق، خاصة في أوروبا وآسيا، مع إعادة تعريف العلاقة مع روسيا وإيران بشكلٍ يخدم مصالح سوريا لا تبعيتها. 

– الدفاع القانوني الدولي: مواجهة حملات التشويه التي قد يروِّجها أذناب النظام السابق أو حلفاؤه، عبر توثيق جرائم الماضي ومتابعتها في المحاكم الدولية. 

هذا التحول لن ينجح دون تبني مفهوم “الدبلوماسية الشعبية” الموازية، التي تشرك النخب الأكاديمية والمثقفين والناشطين السوريين في صناعة الخطاب الخارجي، لضمان أن تمثل السفارات صوت الشعب، لا صوت النخبة الحاكمة وحدها.

وزارة الخارجية بين مطرقة التغيير وسندان التحديات 

في خضم عملية التحول السياسي، تقف وزارة الخارجية أمام لحظة اختبار حقيقية، حيث لا يكفي استبدال الوجوه لتغيير المسار، بل يجب إعادة تعريف جوهر المؤسسة ووظيفتها ضمن مشروع الدولة الجديدة. فالوزارة، التي اعتادت لعقود لعب دور الناطق باسم السلطة الأمنية، مطالبة اليوم بأن تتحرر من عبء خطابها القديم، وأن تتبنى منطقاً جديداً يتجاوز الدور الترويجي إلى وظيفة تواصلية فاعلة تعكس رؤى سوريا الحديثة. هذا التحول يتطلب من الخارجية أن تواكب الداخل المتغيّر، لا أن تبقى رهينة لغة أكل الزمان عليها وشرب، لأن الخارج، أي المجتمع الدولي، لم يعد يتجاوب مع الشعارات، بل مع المؤشرات الواضحة على الانتقال الديمقراطي.

وهنا تبرز المهمة الأكثر حساسية: إعادة بناء الثقة. فالسفارات ليست مجرد أدوات تقنية، بل واجهات سياسية تعكس ما يجري في العمق، وإذا استمرت الوزارة في ترديد الروايات المعلّبة، فستُستقبل محاولات التغيير بقدر كبير من الشك، وربما الرفض. ولذا، يصبح لزاماً على الخارجية أن تتقن فن صياغة خطاب جديد، لا يغرق في التبرير، بل يقدّم تصوراً واضحاً لسوريا مختلفة دولة تحترم شركاءها، وتعي موقعها في العالم.

مخاطر التردد.. لماذا يمثل بقاء دبلوماسيي النظام تهديداً؟

في لحظات التحول الكبرى، يصبح الحسم ضرورة لا يمكن تأجيلها، والتردد في استبعاد دبلوماسيي النظام السابق لا يعني فقط تباطؤاً في الإصلاح، بل يحمل في طياته تهديداً مزدوجاً داخلياً وخارجياً. من جهة، وجود هذه الشخصيات في مواقع تمثيل الدولة يزرع بذور الشك داخل مؤسسات الدولة الجديدة، ويؤخر تبلور هوية دبلوماسية منسجمة مع روح التغيير، خصوصاً حين تتولى شخصيات مأزومة بماضيها مهمة الدفاع عن مشروع لم تكن يوماً جزءاً من رؤيته. ومن جهة أخرى، فإن هذا الإبقاء يُستقبل دولياً كتناقض بين خطاب يسعى للتجديد وممارسات تُصرّ على إعادة تدوير الوجوه. وهنا يصبح التجديد الدبلوماسي ليس فقط قراراً إدارياً، بل موقفاً سياسياً يعكس صدق النية في بناء قطيعة مع المرحلة السابقة، ويمنع تحوّل السفارات إلى نقاط ارتباك تُربك سردية التحول بدل أن تدعمها. إن الحفاظ على بعض الكوادر الفنية لا يُعد خللاً ما دامت محددة الوظائف وغير معنية بتمثيل السياسات، لكن الأهم أن تظل الوزارة قادرة على التمييز بين من تورط فعلياً في آليات القمع، ومن كان مجرد ترس صغير في منظومة لا يملك فيها القرار، لضمان أن تبقى الرسالة الدبلوماسية منسجمة مع رواية الثورة، لا متناقضة معها.

في الختام، التجديد الدبلوماسي ليس ترفاً، بل هو خطوة جوهرية في معركة شرسة لإثبات أن سوريا الجديدة ليست مجرد شعارات، بل واقعٌ قيد التشكيل. تغيير الكوادر يجب أن يسير بالتوازي مع إصلاح هياكل وزارة الخارجية نفسها، لتصبح أكثر شفافية ومرونة واستجابة للتحديات. الدبلوماسي الجديد لن يكون مجرد موظف، بل سفيرٌ لثورة شعب، وحارسٌ لضمير وطني، وصانعٌ لتحالفات تدعم سوريا في رحلتها الطويلة من تحت الأنقاض إلى مصاف الدول الحرة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني