fbpx

التابوهات.. تغييب للعقل والنقد وحقوق الإنسان

0 223

التابو مفهوم استخدمته المجتمعات البدائية البولينيزية، وهي مجتمعات تعيش في مئات الجزر الشاسعة في منطقة البحر الهادئ، وهي تتكون من جزر منفصلة ثقافياً وسياسياً شمال نيوزيلندا، والتي تسكن مجموعة جزرٍ في المحيط الهادئ، والتي ارتبطت بالطوطم، وهو الرمز المقدس للجماعة، التي تعبده خوفاً من بطشه. وقد ارتبط مفهوم التابو بكل ما يمت بصلة للطوطم المقدس، سواء كانوا أشخاصا أو أماكن ممنوع دخولها، وهذه الممنوعات، هي ما أطلق عليه التابو.

لكن هذه الكلمة خرجت من معناها الأصلي إلى معنى دلالي تغير بتغير ظروف كل مجتمع، فأصبح يدل على المحظور أو الممنوع في نظر الجماعة، بما يتعلق بالدين، والسياسة، والجنس، والعادات الاجتماعية الموروثة عرفاً وتقليداً.

عوامل عديدة، سياسية واجتماعية واقتصادية وبيئية ونفسية، تشكل نظام الإدراك لدى الجماعة، وتنطرح من خلاله طريقة التفكير بالأشياء، والتعامل معها، شكّلت في أحد جوانبها المسموح والممنوع في كل مرحلة تاريخية.

 ولعل أهم تلك العوامل العامل السياسي، فالنظام الاستبدادي المتحكم بكل مفاصل الدولة، والذي يحتكر بيده القوة، يعتبر النقد المباشر للحكومة أو الزعيم السياسي تحدياً للسلطة، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى عقوبات قانونية أو اعتقال.

ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، حيث يتم قمع الحرية في التجمع والتنظيم السياسي، ويمكن أن يتعرض المشاركون في التجمعات السياسية غير المرخصة للاعتقال أو التعذيب. إذ يُعتبر الانتقاد العلني للنظام السياسي والأحزاب الحاكمة تهديداً للاستقرار والأمن. انطلاقاً من قناعة المستبد، أنه أساساً لم يتمّ اخياره بطريقة ديمقراطية سلمية من خلال إرادة الناخبين، وإنما أتى إلى الحكم بقوة السلاح وليس بقوة العقد الاجتماعي الطبيعي.

تعمد النظم المستبدة إضافة إلى استخدام بث الرعب في المجتمع من خلال اعتقال وتعذيب معارضيها، وتعمد الى التحالف مع القوى التقليدية في المجتمع الدينية والعائلية والنخب السياسية الموروثة، لمحاربة المفكرين خارج إطارها بذرائع عديدة، منها المساس بأخلاق المجتمع، أو الإساءة للذات الإلهية، أو التعرض لهيبة الدولة، وكل هذا يعتبر خروجاً على النظام المفروض على الناس، ويمكن اعتباره في جوانب منه على أنه خيانة وطنبة.

تستخدم هذه النظم مؤسسات الدولة جميعها، وخاصة المؤسسات الثقافية والإعلامية للترويج لرؤيتها الضيقة، فرجال السياسة ورجال الدين من مصلحتهم ابقاء الوضع على ما هو عليه، لأن أي محاولة لخلخلة هذا الاستقرار ستحرمهم من مكاسبهم المادية والسلطوية التسلطية.

ينسحب هذا الجمود على كل مفاصل المجتمع التعليمية والثقافية والعائلية فيحرم أفراده حريتهم وقدرتهم على نقد أوضاع بلدهم وخلق واقع جديد.

في هذا المناخ غير الطبيعي، يشعر الأفراد بالخوف والقلق من التعبير عن آرائهم السياسية، أو المجاهرة بضرورة ممارسة حقوقهم الأساسية، بسبب الخوف من قبضة الاستبداد التي تمارس قمع الحرية الشخصية وحرية التعبير، مما يؤدي إلى تكوين مجتمعٍ مكبوتٍ وغير قادر على التطور.

من جهة أخرى، يؤدي القمع السياسي إلى تفكك المجتمع، وسيادة الرؤية الواحدة التي تفرضها السلطة، مما يمنع من تشكّل التنوع والابتكار والتطور في المجتمع. إذ يتأثر الاقتصاد والتعليم والثقافة بهذا القمع الشمولي بشكل سلبي أيضاً، حيث يتم تحديد مسارات التنمية والقرارات السياسية، بما يتناسب وديمومة حكم الاستبداد، هذا الحكم يقوم بإنتاج تابوهاته التي تساعده على السيطرة الجماعية من خلال تمثّل الأسطرة اللغوية وتحديداً محاولة إسباغ صفات الرب الخالق على البشر المخلوق الزائل.

في ظل التابوهات السياسية، وجمود الفكر في المجتمعات المتخلفة، تظهر العديد من المحظورات الاجتماعية والدينية، تتماهى في مفهوم التابو التقليدي، ومن بين هذه المحظورات الشائعة، المحظورات الجنسية، حيث يعتبر التحدث في موضوعاتها شكلاً من أشكال انتهاك الأخلاق العامة الجمعية، فهي تتعارض برأيهم بما استقرت عليه الجماعة حول هذا الأمر، وهذا غير صحيح، فالقمع الفكري بنقد التابو الجنسي، يعني بقاء الوصاية على المرأة في مجتمع ذكوري لم يمنحها حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية بالتساوي مع الرجل.

في هذه الحالة يختفي النقد العقلي لمفهوم الجنس وضرورته الاجتماعية. فلا يعود الأمر محظوراً من النقاش الفكري العلمي الصارم، فهذا النقاش يدفع بالتابو الجنسي إلى التهدم والسقوط، وبالتالي لا يعود حكراً على نخبة دينية هي الوحيدة من يقرّر نقاشه فيما بينها بشكل علني.

المحظورات الدينية مثل نقاش الاجتهادات الفقهية هي محظورات باطلة، لأن نقاشها هو مقاربة نقدية على نصٍ غير ديني، فلا أحد يرفض فعل العقل النقدي ضمن حدود العلمية الصارمة، وغاية ذلك إضاءة النص الديني الحقيقي، ومنع المقاربة التي اشتغل عليها فقهاء من تقديمها على أنها القراءة الوحيدة والصحيحة للنص الإلهي، ورفض حجة أن هذه القراءة هي من صلب الدين.

أما ما يتعلق بالمحظورات الاجتماعية مثل الزواج من خارج العرق أو الطبقة الاجتماعية، أو الطائفة الدينية، فهو مفهوم قابل للنقد، فالبشرية فعلياً تعيش على كوكب واحدٍ، وهذا يدفع إلى إيجاد لائحة حقوق إنسانية تتخطى المفاهيم الفئوية الضيّقة، وهنا تسقط حجة الانغلاق الطائفية أو الفئويةـ لأنها ببساطة تخالف محاكمة العقل للوجود الإنساني، حيث تكثّف هذا الوجود على مقاس ظرفي تاريخي مرّ وانتهى.

إن المحظورات المتعلقة بالمظهر الخارجي مثل ارتداء الملابس غير الملائمة وغيرها تؤثر على حياتنا بشكل كبير، حيث قد تؤدي إلى قيود على حرية التعبير والتصرف. فتسبب هذه المحظورات الاجتماعية والثقافية إحباطاً نفسياً يخلق ضغطاً فكرياً، يؤدي إلى حالة عدم الانتماء، فتقييد الفرد في اتخاذ قراراته الشخصية. قد تصير أقرب إلى المحظورات أيضاً، مما يخلق تشويهاً لصورة الذات البشرية، وإحساساً بالذنب أو الخجل عند مخالفتها.

إن التابو على اختلاف مبررات وجوده التاريخي في زمنه الأول وفي توارثه، صار عبئاً فكرياً واجتماعياً وسياسياً ينبغي للبشرية في صيرورة تطورها المتقدم أن تفككه موضوعياً وتمنع تشكّل تابوهات جديدة، تعبّر بصورة ما عن قمع الإنيان لأخيه الإنسان.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني